الاسم: يوسف
اللّقب: منتالشتة
تاريخ ومكان الميلاد: 27 نوفمبر 1934م البليدة.
"من خلال هذا التكريم أنتم ترسلون رسالة أن الوطن لا ينسى أبناءه، ويتابع إنجازاتهم وأخبارهم، إن العمل الذي يقوم به كل فرد فيه لن يذهب هباء".
النّشأة والأصول:
في غرب الجزائر العاصمة وعلى بعد 150 كلم وبالضّبط في "عين الدّفلى" العريقة بتراثها وفنونها وبعاداتها وتقاليدها نشأ "يوسف منتالشتة" وترعرع في منطقة "تاشتة" Tacheta الّتي تبعد عن ولاية عين الدّفلى بحوالي 47 كلم، وهو ابن أسرة ريفيّة معوزّة الحال ومحدودة الإمكانات.
"أنا من البليدة ويعتقد النّاس أنّ أصولي منها، لكنّني تشتاويّ وأفتخر بذلك"
ولد "يوسف منتالشتة" في السّابع والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1934م بالبليْدة، بعد أن هاجرت عائلته من منطقة "تاشتة" نحو البليدة إبّان الاحتلال الفرنسيّ للجزائر، وكان جدّ جدّه الفلّاح يلقّب بـ "تشتاويّ"، ثم انتقل ابنه إلى حجوط بحثًا عن العمل لأن الفرنسيين نهبوا أراضي أبناء المنطقة ومنحوها للمعمرين، ورفض أبناء المنطقة العمل عندهم فانتقلوا منها إلى أماكن أخرى ولقب بـ "حجّوطيّ"، أمّا جدّه يوسف فـ "موزاوي" نسبة إلى "موزاية"، وبعدها انتقلت العائلة للاستقرار بالبليدة. بينما تعود أصول والدته إلى مدينة "البرواقيّة" التّابعة لولاية المديّة.
نشأ الابن يوسف في عائلة تتكون من 10 أبناء؛ توفي ثلاثة منهم، في أسرة فقيرة؛ الوالد يقوم بالأعمال اليومية وقد يمر عليه اليوم دون عمل، أما أمه "زليخة" فعملت منظفة مكاتب في بنك، وكان يساعدها الابن يوسف وهو في عمر الست سنوات بجمع الأوراق في أكياس المهملات.
"أنا لا يزعجني عندما تعمل أمي منظفة، ولكن ما سيزعجني أكثر لو أن أبي لا يعمل"
مرحلة الدّراسة الابتدائيّة:
التحق بمقاعد الدّراسة وعمره ستّ سنوات، فتلقّى تعليمه على يد فرنسيّين بمدارس خاصّة بـالأهالي ««les indigènes، وفي تلك الفترة كان لا يُسمح للمسلمين الالتحاق بالمدارس الثّانويّة لكبر سنّهم بسبب الاختلاف في برامج التّعليم بين المسلمين والفرنسيّين.
كان الفرنسيّون في سن الثانية عشر عندما يصلون المرحلة الثانوية، بينما المسلمون في سنّ الرابعة عشر ممّا شكّل لهم حاجزًا حقيقيًّا للانخراط بسبب الاختلاف في العمر؛ لذا فإنّ جلّهم وحين إكمال المرحلة الأولى من التّعليم يتوجّهون للتكوّن في الحرف اليدويّة أو ما شابه من ميكانيك وكهرباء أو نجارةٍ وحدادةٍ. وخُصّص لذلك مركز بجانب الابتدائيّة «Centre d’apprentissage »، وكان هدف الإدارة الفرنسية من تعليم الجزائريين هو فقط وصول "الأهالي" إلى القدرة على القراءة والكتابة للقيام بالأعمال البسيطة اليومية التي يحتاجها الفرنسيون، حسب ما يرويه البروفيسور منتالشته.
عشنا في صغرنا في جو من التضامن، عندم نجوع كنا نتوجه إلى الخباز فيمدنا ببعض الخبر، ونتوجه بعدها إلى جاره "اللبان" فيدهن ذلك ببعض الزبدة، وكل ذلك مجانا، لم نمت من الجوع رغم فقرنا لأن المجتمع كان يعيش بالقيم.
كان الوضع مختلفًا مع الفتى "يوسف" الشّغوف بالعلم والمتطلّع لنيل المراتب العليا رغم حداثة سنّه، فاستطاع وهو في سنّ الحادية عشر النّجاح في اجتياز اختبار القبول لمرحلة الثّانوية واجتاز أيضا امتحانات المرحلة التكميلية (المتوسطة)، فكان من التّلاميذ المتفوّقين على غرار التّلاميذ الآخرين سواء من المسلمين أو الفرنسيّين أنفسهم، بفضل وجود أساتذة أكْفاء أخذوا بيده، منهم: بن سطالي، الساسي، ڨيراب، ياكر، خالدي، ومن الفرنسيين: فيجي، السيد باركو، وهؤلاء غرسوا فيه حب التعلم بحسن معاملتهم للتلاميذ.
ومما يذكر عن هذه المرحلة أن "الشيخ" ياكر، كان يغرس فيهم حب الوطن والتطلع للاستقلال، فعند العودة من الاستراحة يقول لهم: لقد عرفنا قبل قليل تاريخ فرنسا، والآن سنتاول تاريخ الوطن، تاريخ الجزائر. أما: بن سطالي، وڨيراب فقد ساعداه هو وثلاثة من أصدقائه في اختصار سنوات الدراسة فكان ينتقل بالسنتين عوض السنة الواحدة، وبهذا أكمل المرحلة في سن الحادية عشر بدل أربعة عشر.
"من أسوء ما فعلته فرنسا في زمن الاستعمار أنها لم تعتبرنا جزائريين بل صنفتنا مسلمين فرنسيين تابعين لبلد علماني"
عاش الطفل يوسف مرحلة الطفولة بصفة عادية أهمّ خصائصها أن الجميع يربي الجميع، فهو يرى أن مؤسسات المجتمع ساهمت في بناء شخصيته، بداية من الأسرة إلى الجامع والمدرسة، والشارع والملعب، وكان ملتقى الأطفال هو ساحة "التوت" وسط البليدة.
انخرط في فريق اتحاد البليدة رفقة كل من معمّر أوسر، أحمد زازا، وبراكني، وتشاكر، وغيرهم وفاز بالبطولة المدرسية لشمال إفريقيا أواسط.
"من الصور العالقة في الذهن أننا كنا نشتري حاجيات النساء الماكثات في البيت دون مقابل، وكانت توصية الوالدة: حذار أن تتقاضى على ذلك الفعل دينارا واحدا، إلا أن يكون صدقة من طعام أو ما شابه".
توجّه بعد تلك الفترة للتدرّج في المتوسّطة الفرنسيّة، حتى تحصّل على شهادة التّعليم المتوسّط. ومن بين أعزّ أصدقائه في هذه المرحلة "سعيد آيت مسعودان" -رحمه اللّه-، المجاهد والوزير السابق في عهدي الرئيسين هواري بومدين والشاذلي بن جديد، والذي يعتبر أول طيار جزائري.
انتقالًا إلى المتوسّط فالثّانويّ:
أرادت الأقدار أمرًا مغايرًا، فبالرّغم من استيفاء الشّروط الشّكليّة جميعها وزيادة؛ فإنّه وبسبب المستوى المعيشيّ الضّعيف لم تتوفّر له لوازم الدّراسة الواجب اقتناؤها ممّا تراجع عن الالتحاق بمدارس الثانويّة الفرنسيّة؛ فكيف يلتحق بالثانوية مع أبناء المعمرين وهو لا يملك حتى اللباس اللائق؟ وهو الذي نشأ في بيت تنتقل فيه ملكية الثياب من الأكبر إلى الذي يليه لشدة الحاجة، وفيه يتشارك الإخوة ذات الأدوات في الغالب لمحدودية القدرة الماديّة للعائلة.
وبدلا من الالتحاق بالثانوية، تقدم لاجتياز امتحان الدخول في المدرسة الخاصة بالطيران في برج البحري "كاب ماتيفو"، وبعد دراسة سنتين يكون من حق الثلاثين الأوائل اجتياز امتحان البكالوريا، والباقي يوجهون إلى الدراسة التقنية.
أما صديقه سعيد آيت مسعودان الذي يجمعهما حب مجال الطيران؛ فواصل طريقه في مدرسة روشفور للطيران بفرنسا، وقد كانا في مرحلة المتوسط يستغلان عدم الدراسة يوم الخميس للتوجه إلى منطقة التدريبات بالشفة، للمطالعة ثم التناقش حول ما طالعه كل واحد منهما. ولمشاهدة الطيران...
ومما يتذكّره عن هذه المرحلة أنه عندما يخرج من المدرسة في برج البحري يوم السبت ويصل إلى البليدة يجد أصدقاءه قد سطروا برنامجا مع بعض للالتقاء واستغلال الوقت.
اجتاز امتحان البكالوريا "رياضيات وتكنولوجيا"، وكان عدد المقبولين المفترض في كل دفعة هو 120، وعدد الجزائريين منهم 10 في المئة، وقد كانت المنافسة شديدة فقد كان يشارك في الامتحان حتى الطلبة القادمون من فرنسا، ومع هذا نجح وتحصل على المرتبة 13، وكان يأمل الالتحاق بالمدرسة العليا للطيران في فرنسا ليصبح مهندسا، لكن تزامن ذلك مع اندلاع الثورة المباركة 1954، ومن بين زملائه: "بلقاسم موسوني"، و"إسماعيل كبيلان".
التدرّج وعالم ما بعد البكالوريا:
تمرّ السّنوات ويزداد معها إصرار البروفيسور: "يوسف منتالشته" محاولًا في كلّ مرّة رسم طريقه في سبيل تحصيل العلم أينما تيسّر له ذلك؛ ومع نهاية شهر نوفمبر 1954، كان عليه مغادرة الوطن سرّا بعدما وصلته أنباء عن ترصد الاستعمار الفرنسي لحركاته بسبب علاقته "المشبوهة" مع المجاهدين، وهذا عملا بنصيحة أستاذه في اللغة الإنجليزية حيث وجد اسمه متداولا لدى الشرطة الفرنسية.
اقترح عليه الذهاب إلى مارسيليا برسالة إلى صديقه "السيد دوسينات" الذي ضيّفه في بيته، والذي اقترح عليه العمل أستاذا ملحقا للمواد: الرياضيات، والفيزياء، بمركز التكوين "Antibes" في جنوب فرنسا؛ نظرا لحصوله فقط على البكالوريا، ووفّر له إقامة داخلية، ووفاء لأمه أرسل لها أول راتب حصل عليه.
وفي نفس الوقت وتوظيفا لخبرته في كتابة التقارير الرياضية التي كان يقوم بها لجريدة: « Alger Républicain » ، اتصل بجريدة محلية في مارسيليا، وقدم بطاقته الرسمية التي كان يعمل بها حول إمكانية وجود عمل معهم، فطلبوا منه إجراء حوارات مع اللاعبين القادمين من شمال إفريقيا للعب في مارسيليا والقيام بروبورتاجات حولهم. وقد دامت المهمة حوالي 3 أشهر.
في أدائه لمهمة التدريس بمركز التكوين حذره الأساتذة من صرامة المفتش الأكاديميّ، وهو الذي يسمونه بـ "Peau de vache". دخل عليه في يوم من الأيام فوجد التلاميذ في فترة اختبار بينما هو منشغل بقراءة الجريدة، فطلب منه إلقاء الدرس على الطلبة، وبقي المفتش يتابع.
وبعد خروج التلاميذ للاستراحة، شكره المفتش على قدرته في التدريس، وطلب الإجابة عن تصرفه عندما ترك التلاميذ يقومون بالاختبار وهو منشغل بقراءة الجريدة؟
فأجابه: سيدي، نحن أبدا لا نفصل طالبا لضعفه، فيمكنه النجاح عندما يحاول ويحاول، أنا أتركهم لمسؤوليتهم، حتى من ينقل الإجابة أنا أمنحه فرصة أخرى للاطلاع على الدرس، واعلمْ أن هناك مراحل أخرى لتقييم الطلبة.
وبجوابه هدأ المفتش، وخرجا من القاعة مع بعض حتى أن المدير والأساتذة الذين أخبرهم بزيارة التفتيش تفاجأوا من المنظر ولم يصدقوا أن الأستاذ منتالشتة خرج "سالما" من حملة التفتيش، بل وضيّفه المفتش للغداء، وتحدث معه عن وضعيته ورغبته في إكمال دراسته وعدم وجود منحة دراسية، فاقترح عليه أن يكون مشرفا في الإقامة الداخلية في مارسيليا للإشراف على الطلبة في الفترة الليلية، وهكذا يمكنه دراسة تخصص الفيزياء في كلية العلوم في الفترة الصباحية، وكان ذلك في أكتوبر 1955.
الوجه الآخر لاجتهاد البروفيسور:
لا يعتبر البروفيسور "منتالشتة" عالمًا فحسب، بل كان له الحضور القويّ والمكين أيضا في خدمة الوطن والإسهام في تحريره وجعل رايته ترتفع عاليًا في سماء الانتصار والحريّة ؛ فقد كان يعمل بسريّة تامّة على نقل الوثائق بين المجاهدين في خلية مارسيليا تحت رئاسة صالح الونشي، وكذا حراسة المجاهدين من المستعمر أثناء اجتماعاتهم التّشاوريّة، وشارك في إضراب 19 ماي 1956م تحت صفوف الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين l’UGEMA، وجاءت مشاركة الطلبة في الإضراب ردا على مزاعم فرنسا أن الثورة يقوم بها مجموعة من الفلاقة، فكان الرد أن الثورة يقوم بها أيضا الطلبة الجامعيون نخبة المستقبل، وأنها قضية شعب كامل، ولتصحيح النظرة داخل فرنسا أن الشعب الجزائري يبحث عن حريته واستعادة استقلاله.
وجراء ذلك طرد من الإقامة الداخلية، ومُنع من حقوقه في الجامعة، فجرب العمل حمالا في الميناء بأجرة على حسب عدد الأحمال، لكنه عند بداية المهمة، كان الحمل الأول ثقيلا عليه أقعده الأرض، فنصحه بعض العمال أن يغير العمل، فاتجه إلى مقهى قريب يقصده الجزائريون فعمل كاتبا عموميا للرسائل، والشكاوى الإدارية.
وبقي مساهمًا في إضراب الطّلبة إلى غاية سنة 1958م، فأُدخل السّجن لمدّة تسعة أشهر؛ ثلاثة أشهر منها بمرسيليا ثم ستّة أشهر أخرى بسجن فران "Fresnes »"، في "باريس" رفقة ثلاثة طلابّ جزائريّين، وزوّدهم محاميهم بكلمة السر عند دخولهم السجن والتي بها يمكنهم التعرف على المجاهد محمد غفير الملقب بـ "موح كليشي" الذي كان مسؤولا هناك على المسجونين السياسيين.
بعد 57 سنة التقى البروفيسّور "منتالشتة" مجدّدا مع المجاهد "محمّد غفير" بقنزات في ولاية سطيف، وقد ردّدا كلمة السر الّتي جمعتهما في فرنسا، وكانت فرصة شاعرية لاسترجاع الذكريات لا سيّما في فترة إقامتهما بفرنسا.
ونظرا لعدم ثبوت التهمه ضده، وضع في الإقامة الجبرية في بواتييه، فسجل في الكلية هناك، وفي الأيام الأولى كان عليه إمضاء الحضور أسبوعيا في مركز الشرطة، ثم أصبح شهريا. وكانت الدراسة عادية حتى جاءه الأمر من قيادة جبهة التحرير بضرورة مغادرة فرنسا والتوجه إلى سويسرا، فاختار تاريخ 24 ديسمبر يوم الاحتفال بعيد الميلاد الذي يكون فيه كل أعضاء أسلاك الأمن مشغولين بالاحتفال.
فرّ هاربًا من السّجن في 24 ديسمبر 1960م رفقة صديقه أحمد زازا الذي عاد إلى فرنسا بعد أن أوصله، وكانت الوجهة لوزان بسويسرا عند المجاهد الملقّب بـ "جمال حوحو"، ثمّ أُرسل إلى ألمانيا عند المجاهد "حفيظ كرمان"، فاجتمع هناك رفقة ستّة مجاهدين، ليغيّروا الوجهة نحو روما عند "الطيب بولحروف" ثمّ إلى طرابلس عن طريق الباخرة تفاديًا لأن يُكتشف أمرهم عند "بوديسة"، ومنها إلى تونس عن طريق الشاحنة، ثم الاتصال بوزارة التسليح ... وكان كل ذلك مخططا له.
"عندما كنت في السجن لاحظت أنا وأصدقائي الذين نقطن في نفس الغرفة؛ أنّ المسجونين الجزائريين الآخرين في الغرف الأخرى غير متمدرسين، فاستغلّينا الفرصة لتعليمهم المبادئ الأساسيّة، وكنّا نخطّط لتبادل الغرف والتنقّل فيما بينها واستخلاف من يغيب بسريّة ودون إشعار الحرّاس لتفادي أيّة مشكلة، وللنّكتة ففي إحدى المرّات وبينما كنت أدرّس في غير غرفتي؛ قدمت زوجتي لتزورني، ولمّا نودِيتُ لاستقبالها خرج إليها صديقي بدلًا منّي فحدّثها وأوهم الحارس بأنّه هو منتالشتة، طبعا زوجتي كانت قد فهمت الأمر بيسر وعاد كلّ منهما أدراجه"
تحضيرًا لما بعد الاستقلال:
قصدت المجموعة سنة 1961م وزير التّسليح والاتّصالات العامّة ((MALG المجاهد: "عبد الحفيظ بوصوف" بتونس، تلبية لدعوته المتمثّلة في تكوين الإطارات الجزائريّة استعدادًا لما بعد الاستقلال، وقد قال لهم حينها:
"الجزائر حرّة وستبقى كذلك، كلّ ما عليكم فعله الآن هو الاستعداد لما بعد رحيل الاستعمار الذي سيخلّف وراءه صحراء قاحلة، ليس للجزائر غيرنا وليس لنا سوى أن نبنيها وندفع بها نحو ركب الحضارة خطوة خطوة"
فالمشكل الّذي أزعج الوزير آنذاك هو كيف سيتمّ ملء الأماكن الشاغرة بعد خروج الفرنسيّين من الجزائر، وعُيّنَ "يوسف منتالشتة" رئيسًا لمجموعة من المجاهدين بالمرسى من أجل التّحضيرات في ميدان الاتّصالات وبالتّحديد تجهيز وسائل الإذاعة والتّلفزيون والمستلزمات الخاصّة بهذا المجال قبل الدّخول إلى أرض الوطن.
وبفضل التكوين الأسبوعي الذي قدّمه المجاهد "يوسف" لهاته الإطارات، وبفضل الاختبار النوعي الذي أجراه لهم والذي كان معتمَدا في مدرسة ديوان البث الإذاعي والتلفزي الفرنسي، لم يتوقف البث التلفزي والإذاعي في الجزائر عند خروج فرنسا.
لم يحضر الباحث "يوسف منتالشتة" مراسيم الاحتفال بالاستقلال، بل أعطاه المجاهد "بوصوف" تسريحا لإكمال دراسته والعودة إلى جامعة بواتييه «poitiers»، ليحصل على شهادة دكتوراه الدّرجة الثّالثة في تخصّص «science moléculaire appliqué» في نوفمبر 1962 ويعود إلى الوطن بعد ذلك، وقد كان معه في تلك الفترة جزائريان آخران هما جيلالي رحموني، عبد العزيز طزايت.
كتبت في رسالة دكتوراه الدرجة الثالثة، وبعد الاستقلال مباشرة، وفي جامعة بواتيي الفرنسية "إهداء إلى وطني"، تعبيرا عن اعتزازي بوطن
واصل الدكتور "منتالشتة" نشاطاته العلمية فاستدعي إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1965، وبعدها جاءته دعوة من الصين، فبقي لثلاثة أشهر هناك قدم محاضرات في الجامعات الصينية بمناسبة المؤتمر العالمي للعلماء الذي نظمته الصين، وهناك التقى بالرئيس الصيني ماوتسي تونغ، ورئيس أكاديمية العلوم الصينية.
وكان في هذه الفترة يحضر للحصول على شهادة الدكتوراه؛ فكان يدْرس في الجزائر ويتوجه كل صائفة إلى المدرسة العليا في باريس بوسائلها المتاحة لتحضير الدكتوراه، حيث كانت العلاقة جيدة بين المؤسستين.
ومن بين أساتذته ألفرد كاسلر (Alfred kastler) الحائز على نوبل في الفيزياء بعد ذلك، الذي نصحه قائلا: "في العلوم لا توجد هناك طبقيّة، نحن جميعا خدّام للعلم، والطريق الّذي سلكتُه أنا قد يسلُكه غيري ويضيف عليه بالأضعاف، الأهمّ من ذلك أن يحبّ ويعمل ويبحث بجدّ". « Nous sommes tous au service de la science ».
توج الدكتور "يوسف" مجهوداته بالحصول على شهادة دكتوراه دولة في العلوم الفيزيائيّة بجامعة الجزائر سنة 1967م، وهو بذلك يعتبر أوّل جزائريّ حازها في التخصّص في تلك الفترة.
مناصب ومسؤوليّات متعدّدة:
بعد الاستقلال، واصل مهمة التكوين بتقديم تربصات تطبيقيّة للطلبة الذين قدِمُوا من تونس، وتوجد وثيقة تثبت دخوله إلى مقرّ الإذاعة والتّلفزة بتاريخ 19 جويلية 1962م، كما شغل "يوسف منتالشتة" منصب أستاذ محاضر في العلوم بجامعة الجزائر هو وأساتذة جزائريون آخرون درسوا لدى البروفيسور "منتالشتة" وقد وضعوا اللبّنة الأولى للجامعة الجزائريّة وهم:
- الأستاذ لغواطي (المدير العامّ للتّلفزة الجزائريّة).
- المجاهد عبد الكريم حساني (مكلّف بالاتّصالات على مستوى الوطن).
- مجيد تومي (تمّ تكليفه بالمجال التقنيّ في مؤسسة الإذاعة والتّلفزة الجزائريّة)، وهو الّذي قام بإنزال علم فرنسا ورفع راية الجزائر بعد الاستقلال.
في بداية الاستقلال وعند تدريسه في الجامعة توجه إلى المخبر لتحضير حصة للطلبة، حاول تشغيل الأسيليسكوب " Oscilloscope " فلم يتمكن من ذلك، وحين حاول إصلاح الأمر وجد الأسلاك الكهربائيّة مقطوعة بفعل تقني يرّجحه من منظمة (OAS)، وقد ترُكت عليها رسالة مكتوب فيها «Et maintenant démerdez vous».
وضع البروفيسور "منتالشتة" آنذاك تصوّره لتسيير الجامعة وحضّر البرامج، وسعى للتّعاون مع الجامعات الدّوليّة للاعتراف بالجامعة الجزائريّة مقتنعا بضرورة البرهنة على استحقاق الجامعة الجزائرية الاعتراف بها، وهو ما حدث فقد كانت لها مكانتها، وكان الفرنسيّون يقْدُمون من خارج الجزائر لتقديم أطروحاتهم في الجامعة الجزائريّة وعرضها أمام لجنة تحكيم جزائريّة.
تقلّد سنة 1967م منصب مدير مركزيّ لمنطقة التّعاون العلميّ بين الجزائر وفرنسا، ورئيس جامعة الجزائر الملحقة لجامعة "Bordeaux" بفرنسا رغم صغر سنّه.
لم يمكث فيه طويلا، واستقال من منصبه سنة 1969م فاستُدعي من طرف رئيس الجمهوريّة "هوّراي بومدين" لمعرفة سبب استقالته، وألحّ عليه البقاء واقترح عليه منصب وزير، لكن البروفيسور رفض العرض وأخبره بأنّه يرغب الدّخول في مجال الإعلام الآليّ، ليقرّر بعدها إعادة النتائج والتطبيقات التي توصّل إليها في الدّكتوراه في مجال الإعلام الآليّ لتمكّنه ودقّته في ممارسة البحث العلميّ. وفي الفترة نفسها اقترح مشاريع عديدة للرئيس كلّها تصبّ في مجال الإعلام الآلي وتعميمه على مختلف القطاعات.
اقترح البروفيسور "منتالشتة" العديد من المشاريع للحكومة، ونشأت علاقة مباشرة مع رئيس الجمهوريّة الراحل هواري بومدين، فكانت هناك لقاءات بينهما وتشاور حول مستقبل الجامعة والمشاريع الّتي يمكن العمل عليها، وكان حينها الحديث جاريا في العالم حول القنابل الذريّة، أمّا البروفيسور منتالشتة فكان رأيه التركيز والاستثمار في الإعلام الآليّ، فاقترح عام 1969م تأسيس مركز الدراسات والبحث في الإعلام الآليّ (CERI)Centre d’études et de recherche en informatique والّذي أصبح لاحقا المدرسة الوطنيّة للإعلام الآليّ.
علاقته بالأستاذ مالك بن نبي:
حظيَ البروفيسور "يوسف منتالشتة" برفقة الأستاذ المفكّر وفقيه الحضارة: "مالك بن نبي" حيث كان أستاذه ومعلّمه، وقد عملا معا عندما كان "مالك بن نبي" مدير التعليم العالي ومكتبه في الجامعة، ولأنّ العرف المعمول به بين الجامعات يقتضي رتبة الدكتوراه في العميد للاعتراف بشهادات الجامعة، ولم يكن مالك بن نبي العميد حاصلا على الدكتوراه وإنما فقط مهندس، فقد رشّحت الجزائر البروفيسور "منتالشتة " لرئاسة الجامعة، ويقول منتالشتة في هذا الصّدد: "كنت بالفعل رئيسًا لكن مالك بن نبي يبقى أستاذا لي وموجّها وأنا أدين له بالكثير".
وكان يزور مالكَ بن نبي في بيئته عندما استقال من العمل في الجامعة، كان يزوره هو والطبيب د. عبد العزيز خالدي والحاج محمد يعلى محافظ ولاية الجزائر في ذلك الوقت، وكان الحديث في الغالب حول التعليم والجامعة.
وقد حضر الأستاذ: "مالك بن نبيّ" –رحمه اللّه- مناقشة دكتوراه البروفيسور "منتالشتة"، وكتب مقالًا بعنوان «l’intelligence à l’honneur» في مجلّة الثورة الإفريقيّة « Révolution africaine » حيث أشاد فيه بالبروفيسور وكونه مفخرة الجزائر والعالم قاطبة بمناسبة كونه أول جزائريّ يتحصّل على الدّكتوراه في العلوم الفيزيائيّة، وكان دائما ما يدعو للاقتداء به.
قصّة المدرسة العليا للإعلام الآليّ:
عندما كان الأستاذ "منتالشتة" باحثا في مجال الفيزياء وأثناء تحضيره للدّكتوراه كان يحتاج إلى استعمال الكمبيوتر، فأدرك حينها أهميّة الإعلام الآلي وضرورته في البحث العلميّ، وأنّ كلّ شيء مرتبط به، وأن التمكّن فيه فتحٌ لأبواب وآفاق عُليا؛ فقدم تقريرًا متكاملًا ومفصّلًا إلى الرئيس "هواري بومدين" يحوي برنامج التّدريس وشروط الانخراط في المدرسة.
وخلال إحدى الاجتماعات الإداريّة في فيينا لتمثيل الجزائر في الوكالة الدوليّة للطّاقة الذريّة شهر ماي 1969، تقدّم إليه السّفير الجزائري وطلب منه الرجوع إلى الجزائر بصفة مستعجلة لمقابلة الرّئيس؛ حيث تمّ إخباره من طرف المجلس الوزاريّ بقبول مشروعه وطُلب منه أن يقوم بشرحه وتفصيله، فكان المشروع تحت المسؤولية المباشرة لوزير الدولة لشؤون المالية والتخطيط السيد شريف بلقاسم.
وهنا ابتدأ التحدي الحقيقي، فقد كان لزاما على البروفيسور "منتالشتة" أن يكون المشروع جاهزا في أكتوبر في الدخول الجامعي المقبل.
كان واثقا من المشروع لأنه جاء بعد بحث وبعد خبرة في التكوين، لم يرد البروفيسور يوسف أن تكون مدرسة خاصة بأبناء العاصمة فقط بل كان يريدها وطنية يأتيها الطلبة من كل مكان، وهذا يعني أنه لابد من إقامة داخلية للسكن، مع استقطاب الأساتذة وكل ذلك في مدة لا تتجاوز الثلاثة أشهر.
أجريت اختبارات القبول في عدد من الولايات للطلبة، وابتدأت الدراسة في قاعة صغيرة داخل مركز تابع للسكك الحديدية مقابل شارع حسيبة بن بوعلي، وقد ابتدأت الدراسة نظريةً لعدم وجود الوسائل ولا الأساتذة، ثم ابتدأت الأمور تنتظم، يقول البروفيسور "منتالشتة": من كان يعرف أي شيء قَبِلَ التدريس، كنا نريد زرع الأمل في نفوس الطلبة أننا نستطيع ولسنا عاجزين أمام الأجانب.
ولاستقطاب الأسماء الكبيرة في البحث العلمي، كان لزاما تحضير المركز للتعاقد معها وتجهيز المكان ليواصل الباحثون المستقدمون أبحاثهم، ولذلك قمنا بإمضاء اتفاقيات مع المدرسة العليا في باريس ومعهد الدراسات النووية.
تمّ التدشين في بداية أكتوبر سنة 1969م بواد السّمّار بحضور كلّ من الرّئيس الرّاحل "هوّاري بومدين" والعديد من الوزراء من بينهم: "عبد الكريم بن محمود"، و"عبد الله خوجة" وغيرهم، وهنّأه الرّئيس بومدين بابتسامة مشجّعة ومبتهجة على الإنجاز المحقّق، وتم تعيين بوراس مديرًا للمعهد، وكان منتالشتة مدرّسًا فيه ويعمل بالموازاة في المحافظة الوطنيّة للإعلام الآليّ ومسيّر المديريّة العامّة للتّكوين والبحث.
ومن التعاون في التدريس أنني كنت في تواصل مع أستاذ في جامعة فرنسية وكنا ندرّس نفس المقرر في الجزائر فاتفقنا أن يقوم بتحضير أسئلة لطلبتي وأقوم بالشيء ذاته لطلبته، وهذا من باب التشارك والتعاون في التدريس وتصحيحها، وهي تجربة جيدة للاحتكاك بتجارب الآخرين وتقييم المستوى إيجابا أو سلبا.
كان المعهد قبلةً لجميع الطّلبة الأفارقة من مختلف البلدان، وكان الطّلبة من تونس والمغرب يدرسون بالمعهد ثمّ يرجعون إلى بلدانهم لتطوير سياساتها وتطبيق ما تعلّموا والتدرّج في مناصب عليا، وحاليا العديد من متخرّجي المدرسة موظّفون تستقطبهم شركات تقنيّة عالميّة ذائعة الصّيت مثل: Intel, Google وشركات وادي السيليكون: Silicon valley.
البروفيسور "منتالشتة" في هيئة اليونسكو:
استدعى مدير اليونسكو البروفيسور منتالشتة وأخبره بالحاجة إلى خدماته، واستعداده لتقديم كل الإمكانات للعمل، ومبديا تعجبه من قدرته على العمل في الجزائر رغم نقص الوسائل.
أعطاه المدير مسؤوليّة تطوير الإعلام الآليّ في اليونسكو "UNESCO" وكانت مشرفة على تطويره في عدة بلدان، ومن إنجازات البروفيسور منتالشتة أنه طوّر ذلك في المغرب، وتونس، وموريتانيا، والسنغال، والمكسيك، وغيرها من الدول.
عمل البروفيسور منتالشتة على ربط الجزائر بخطّ الأنترنت بين مركز إيطاليا بـ "بيزا" ومدرسة الإعلام الآليّ سنة 1993م، في وقت كانت فيه كلّ دول شمال إفريقيا المطلّة على البحر الأبيض المتوسّط تسعى للحصول على الأنترنت.
لم يكن خط الجزائر هو أوّل خط في إفريقيا، بل كانت هناك خطوط أخرى لكنها ضعيفة جدّا، بينما الخطّ الذي ربط الجزائر كان بقدرة 17 KB/S هو أيضا ضعيف لكن في ذلك الوقت يعدّ إنجازًا كبيرًا جدّا، ولكن يمكن القول أنّ الجزائر في أواخر الستّينيّات وبداية السّبعينيّات وبفضل العمل الّذي قدّمه البروفيسور منتالشتة وزملاؤه كانت من الدّول الرّائدة في الاستراتيجيّة واستشراف المستقبل مثلها مثل فرنسا وإسبانيا وغيرهما، وكانت متقدمة على البلدان الإفريقيّة.
خلال فترة عمله باليونيسكو كان يسعى دوما إلى مساعدة الجزائريين؛ فيتّصل بالجزائريين مستفسرا عن احتياجاتهم فيما يتعلق بتكنولوجيات الإعلام لإدخاله إلى الجزائر. وكلما كان هناك برنامج للتكوين أرسله إلى المسؤولين في الجزائر لأخذه بعين الاعتبار.
"أنا أكافح فرنسا بلغتها وأتقدّم عنها بلغتها، فاللّغة ليست حِكرًا على بلد ما بعينه بل هي ثراء ثقافيّ متداول".
عضويّات ومنجزات أخرى:
- عضو مجلس محافظي الوكالة الدوليّة للطّاقة الذريّة IAEA من سنة 1966م إلى سنة 1969م.
- مؤسّس ومدير التّكوين والبحث بالمحافظة الوطنيّة للإعلام الآليّ من سنة 1970م إلى سنة 1981م، ومقرّها هو مقرّ شركة اتّصالات الجزائر حاليًا.
- مدير البرنامج الحكوميّ الدوليّ للمعلوماتيّة لليونيسكو (TIP) من عام 1983م إلى 1995م.
- رئيس لوحة الابتكار التكنولوجيّ لليونيسكو من عام 1990 إلى 1995م.
- مستشار المدير العام للجمعيّة الفرنسيّة لتسميّة الأنترنت بالتّعاون، ومسؤول الكليّة الدّوليّة التابع لهيئة AFNIC (L’Association française pour le nommage Internet en coopération).
- مؤسّس المحافظة الوطنيّة للإعلام الآليّ CNI « Commissariat Nationale de l’Informatique » قصد تعميم الإعلام الآليّ في مختلف المؤسّسات.
- خبير استشاريّ لدى الاتّحاد الأوروبيّ.
- خبير استشاريّ لتكنولوجيا الإعلام والاتّصال بالمكسيك.
- خبير دوليّ بأنظمة الإعلام الآليّ.
- متابع ومرافق على الأقل لمشروعين كبيرين في الإعلام الآليّ: "مشروع بريد الجزائر" و"مشروع الخطوط الجويّة الجزائريّة".
- عمل مع المفكّر "مالك بن نبيّ" -رحمه اللّه-، والّذي كان مديرًا للتّعليم العاليّ في الفترة 1964-1967م.
علاقة البروفيسور بالأستاذ "يونس قرار":
تمنحنا الحياة فرصًا مدهشة وتتقاطع أقدارها المفاجئة بطريقة تسلسليّة عجيبة، وقد تُهدينا في وسط الطّريق أشخاصًا يعجز اللّسان عن وصف مدى تأثيرهم، ويكونون الحلقة الأمتن من بين كلّ العلاقات، بهذه العبارات يمكن وصف علاقة الأستاذ: "يونس قرار" بالبروفيسور: "منتالشتة"، صديقٌ رفيق تارةً وموجّه أمين تارة أخرى.
الأستاذ يونس قرار من مواليد 7 جويلية 1959م، تحصّل على شهادة مهندس في الهندسة الإلكترونية من جامعة بومرداس في سنة 1985م، ثمّ التحق بمركز تنميّة التكنولوجيّات المتقدّمة باحثا وقام بتحضير الماجستير هناك، ثمّ رئيس مخبر حتّى سنة 1997م. ومن سنة 1997م حتى 2008م أسّس شركته الخاصّة والّتي تقدّم خدمات الأنترنت شركة "جيكوس" والتي أغلقت أبوابها فيما بعد.
في 2009م التحق بوزارة البريد والتكنولوجيا في الإعلام والاتصال كمستشار مكلّف بتحضير برنامج الجزائر الإلكترونيّة 2013م.
عيّن رئيسا للمجلس العلميّ والتّقني لمسرّع المؤسّسات النّاشئة التّابع للوزارة ولمؤسّسة سونطراك منذ أوت 2001م. وحاليا يعمل مستشارا مستقلّا لبعض المؤسّسات الجزائريّة والأجنبيّة ومكاتب الدّراسات.
تعرّف على البروفيسّور "منتالشتة" سنة 1997م في فرنسا خلال حضوره في الملتقيات المهتمّة بشؤون الإعلام الآليّ والرّقمنة لتتوطّد علاقتهما رويدا رويدا فيصبح بذلك مرافقا له طوال الوقت، فلا تجد البروفيسور "منتالشتة" إلّا وبجنبه الأستاذ "قرار" والعكس حاصلٌ وأكيد. وبفضله عيّن الأستاذ "قرار" مديرا لـ Le collège internationale التابع لهيئة (AFNIC).
في 2013م وفي مؤتمر عربيّ أجري في الجزائر لوزراء تكنولوجيّات الإعلام والاتّصال وحضره الوزراء العرب، وفي سهرة مأدبة العشاء دعا رئيس الجمهوريّة العديد من الإطارات والشخصيّات من الوزارات والجامعات، في كل طاولة كان يجلس وزير عربيّ ومعه مجموعة من الإطارات الجزائريّة، وبينما هم جالسون عند الوزيرة التونسيّة خديجة غرياني، سألها أحدهم عن تجربة تونس في الرّقمنة، فأجابته: "لقد أحرجتموني بهذا السؤال لأنّ الذي قام بتكويننا وتدريسنا في تكنولوجيّات الإعلام والاتّصال هو هذا الشيخ الّذي أمامكم البروفيسّور منتالشتة"، وكان الحاضرون أمامها من الشباب حتّى أنّ أحدهم لم يكن يدرك أنّ الرجل قامة علمية كبيرة، يصدق فيه قول الشاعر:
ترى الرّجُل النّحيف فَتزْدَرِيه °°° وفي أثوابِه أسدٌ مُزيرُ
قام الأستاذ "قرار" بجهود مميّزة في سبيل التّعريف بالبروفيسّور "منتالشتة" وهو من أطلق عليه لقب "أب الأنترنت في الجزائر"، وآمن برؤيته وفكره ودأب على الاحتفاء به في شتّى اللّقاءات والتحدّث عنه وعن إنجازاته وتقديمه للطّلبة، فهو يرى أنّ البروفيسور "منتالشتة" هو أوّل من تبنّى فكرة الدّفاع عن الإعلام الآلي في الجزائر أمام الرّئيس "هوّاري بومدين"، وكان صاحب جرأة شديدة في التوجّه نحو استحداث الأشياء الجديدة، إضافة إلى أنّه هو أوّل دكتور في المجالات التقنيّة ففتح الطريق للآخرين.
يتواصل الأستاذ "قرار" مع البروفيسور "منتالشتة" بشكل يوميّ للاطمئنان عليه والاستفسار عنه، وعندما يحلّ البروفيسّور بالعاصمة يكون الأستاذ "قرار" مرافقا له في أغلب الأوقات، ولقرب البروفيسور من الأستاذ "قرار" فإنّ عائلة هذا الأخير تعتبره فردا منها حتّى أنّ حفيده ذات مرة قال لأمّه: "لديّ ثلاث أجداد جدّي من جهة الأم (الأستاذ يونس قرار)، جدّي من جهة الأب، وجدّي "يوسف منتالشتة"".
بلغت الصداقة قمّتها عندما أهدتهما الأقدار فرصة الحج مع بعض، وكان يونس قرار هو صاحب تنظيم هذه الرحلة المقدسة، وكان هذا أيضا بتوصية من عبد الرحمن منتالشتة -رحمه الله- أخ البروفيسور يوسف الذي قال ليونس: هي أمانة في عنقك أن تأخذ معك البروفيسور إلى الحج، وكان ذلك حوالي 2017، وقد قاما برحلة الحجّ سويّة ورفقة الأستاذ "عبد الوهّاب حمّودة".
يقول الأستاذ "عبد الوهاب حمودة" للبروفيسور "يوسف منتالشتة" لقد أحبّكَ اللّه عندما عرّفك بالأستاذ: "يونس قرار" الّذي قدّمك للجزائر وعرّف أهلها بك".
التّكريمات والاستحقاقات:
تمّ تكريم البروفيسور "يوسف منتالشتة" في العديد من المرّات نظير جهوده الحثيثة في حقول العلم، وبمناسبة إحرازه على شهادة الدّكتوراه، فالتّكريم الأوّل كان عندما دخل المدرّج في اليوم الموالي من حصوله على الدكتوراه لمواصلة التّدريس فاستقبله الطلّاب بتصفيق حارّ وزغاريد مبشّرة ومبتهجة تهنئة له.
بينما التّكريم الثّاني كان من قِبل الرّئيس الرّاحل هوّاري بومدين عندما أرسل له سيّارة خاصّة عن طريق عبد المجيد اعلاهم إلى قصر الرئاسة ليهنئه شخصيا.
أمّا ثالث تكريم فكان من طرف الشّيخ "قاسيمي الحسني خليل" بزاوية الهامل في ولاية بوسعادة، ويعتبرها البروفيسّور أعزّ وأغلى شهادة واحتفاء.
ورابع تكريم: المقال الذي كتبه مالك بن نبي، وهو يرى أنه مقال ليس له في شخصه وإنما لكل الشباب الجزائري، فلابد أن يطلعوا عليه.
"أملي أن أرى أثر جميع الجهود في الميدان من خلال تكوين الكفاءات وتطوير الجامعات".
وإلى جانب ذلك فقد تمّ تكريمه من بعض المؤسّسات:
- في أفريل 2022م قام التجمّع الجزائريّ للنّاشطين في الرّقميّات «GAAN » بتكريم البروفيسّور "يوسف منتالشتة" في منتدى الرّقمنة على ما قدّمه للجزائر كمجاهد وكعالم وأب للإعلام الآليّ في الجزائر.
- احتفاءً بيوم العلم، استضافت المدرسة الوطنيّة العليا للطّاقات المتجدّدة والبيئة والتّنمية المستدامة بباتنة البروفيسّور "يوسف منتالشتة"، وذلك يوم الثّلاثاء الموافق لـ 19 أفريل 2022م.
- تكريم البروفيسّور لحظة زيارته إلى منطقته "تاشتة" في 04 جوان 2022م.
- جمعيّة أمل اليتيم في احتفال منظّم من طرفها وبحضور الأستاذ: "يونس قرار".
- جمعية العلماء المسلمين في ماي 2014م.
- تحصّل على جائزة N’TIC
(Nouvelles Technologies de l'Information et de la Communication) بفندق "سوفيتال" بالجزائر العاصمة.
- تمّ استدعاؤه إلى أمريكا في عام 1965 كعالم في الفيزياء، ثم استدعته الصّين أيضا في إطار دعوة علماء العالم.
قدّم البروفيسور "منتالشتة" ذات مرّة محاضرة في جامعة "عبّاس لغرور" بولاية خنشلة أين تحدّث فيها عن مساره العلميّ والعمليّ، وفي لحظة تكلّمه عن فترة عودته إلى الجزائر للعمل بالجامعة رفقة خمس جزائريّين آخرين (رشيد توري، بن زاغو رئيس جامعة باب الزوار، رمضان وحاس المتخصّص في الرياضيّات، ...) انفجر بالبكاء تأثّرًا بوفاة زميله وصديقه رشيد توري -رحمه اللّه- والّذي ساعده في التّحضير لشهادة الدّكتوراه بجامعة الجزائر وكان نعم الموجّه والرّفيق.
مجمّع "منتالشتة" .. احتفاءٌ واقتداء:
في مبادرة فريدة من نوعها تعمل الأستاذة الدكتورة: "ليلى مخناش" مديرة المدرسة الوطنيّة العليا للطّاقات المتجدّدة والبيئة والتّنمية المستدامة بباتنة على تسميّة المدرجّات والمنشآت بأسماء العلماء الجزائريّين وخصوصًا المنسيّين منهم؛ تعريفًا وتيمّنًا بهم وبما قدّموا لأجل العلم والوطن والبشريّة جمعاء، وتشجيعًا للطّلبة لأن يحذوا حذوهم ويكونوا هم الآخرين معادلة صعبة وإضافة خلّاقة ضمن حركيّة التّاريخ.
وقد سمّت مدرجات الجامعة بأسماء علماء الجزائر على غرار: مدرّج البروفيسور عالم الرياضيّات " رشيد توري"، ومجمّع "منتالشتة" للكيمياء والفيزياء والإعلام الآليّ.
الأستاذة "مخناش" واحدة من بين الذين آمنوا بآثار هؤلاء المشتغلين في حقول الثّقافة والفكر والتّنمية، وأخذوا على عاتقهم رسالة حمل همّ العلم ونشره في المجتمع، وجعل روّاده في المقدّمة بالتّعريف بهم ليكونوا المرجع الأساس والمثل الأعلى والأنموذج الفعّال.
شخصيّات مهمّة التقى بها البروفيسور "منتالشتة":
في مسيرته تعرّف على العديد من الوزراء والشخصيّات المهمّة من بينها:
- الرّئيس الراحل "هواري بومدين" وكان يجالسه بشكل مباشر ويعرض عليه مقترحاته وآراءه وطموحاته بشأن تطوير العلوم في الجزائر.
- قيادات جبهة التحرير: محمد يزيد، بن خدّة، عبد الحميد مهري، عبد المجيد اعلاهم، أحمد طالب الإبراهيمي، لخضر بورقعة، حسّان لزرق وغيرهم كثير بحكم نضاله ضمن جبهة التحرير الوطنيّ.
- رئيس الصّين الشّعبيّة ماوتسي تونغ في إطار دعوة الصين لأبرز علماء العالم.
- المتحصّلون على جائزة نوبل ومنهم الفيزيائي الفرنسي "ألفرد كاسلر" والفيزيائيّ الباكستاني "محمد عبد السلام" والّذي يعتبره قدوة له.
- المفكّر والأستاذ مالك بن نبي والّذي كان يقرأ مؤلّفاته قبل أن يعمل معه في الجامعة الجزائريّة.
- العديد من الوزراء الأجانب ومنهم وزير الداخليّة الفرنسيّ السّابق والّذي اقترح عليه حمل الجنسيّة الفرنسيّة في العديد من المرّات ولكنّه كان يرفض بإصرار.
رغم أن جلّ نشاطات البروفيسّور البحثية وأعماله في فرنسا إلّا أنّه لم يرغب في حمل الجنسيّة الفرنسيّة أبدًا بل بقي حاملًا للجنسيّة الجزائريّة وفقط، من بداية مشواره إلى يومنا هذا؛ فهو يعتزّ بوطنيّته حتى النّخاع.
طلبة الأستاذ "منتالشتة":
خلال مساره؛ مارَسَ البروفيسور "منتالشتة" الأستاذيّة في مختلف التخصّصات والجامعات، وتكوّنت بين يديه إطارات سامية، وتجدر الإشارة إلى أنّه قد عيّن رئيس لجنة المناقشة للعديد من الطّلبة الفرنسيّين بجامعة الجزائر في فترة السّبعينيّات.
من بين الطلبة الّذين درسوا لديه:
- البروفيسور عبد الرزّاق هنّي المدير السّابق لمعهد الإعلام الآلي والأمين العامّ الأسبق لوزارة البريد والمواصلات.
- البروفيسور المهندس شمس الدين شيتور، الوزير الأسبق.
- البروفيسّور أحمد جبّار المتخصّص في الريّاضيات وتاريخ العلوم.
"د. أحمد جبار صديق وأنا بصدد إجراء بحث مشترك معه بحكم تخصصه في تاريخ الرياضيات العربية والإسلامية، أريد أن أقوم بإعادة النتائج التي توصلها إليها علماء الحضارة الإسلامية في القديم يدويا، أريد إعادتها بمساعدة الإعلام الآلي، والوصول إلى معرفة نسبة الدقة التي حققها هؤلاء".
الشباب في حياة البروفيسور:
البروفيسور "يوسف منتالشتة" مربي حنّكته الحياة، فأصبح كلامه حِكَما تحتاج إلى تمعّن، وقواعد تترسّخ بالتمرّن، همّه الأكبر الأخذ بيدي الشباب والاستماع إلى انشغالاتهم وإسداء النصح لهم، ولهذا دائما ما نجده محاطا بالشباب عند انتهاء المحاضرات أو اللقاءات العلمية التي يعقدها، قال يوما مخاطبا شابا أراد أخذ صورة تذكارية معه ومشترطا عليه:
تذكر؛ عندما تجد عائقا أمامك أنظر في هذه الصورة وحاول أن تجد حلا لوضعيتك كما وجدت أنا حلولا لمشاكلي".
إن البروفيسور منتالشتة حسّاس جدّا عندما يجد قلة الحيلة في الشباب تحت أي مسمّى، فيقول: لا شيء يزعجني أكثر من سماعي لشاب يقول "لا أستطيع".. حاول ثم قل "لم أستطع".
إن من الكلمات التي لا أحب سماعها "هذا مكتوب.. " لم لا تكتبها أنت؟ توكل على الله واعمل، وسيسخر لك من يعينك". لو كنا اعتقدنا أن الاستعمار قدرنا و"مكتوبنا" لم نستقل إلى الآن.
الماضي... لا تمحوه من ذاكرتكم، ولا تغرقوا فيه.. هو درس يستفاد منه لمواصلة الطريق.
"ثلاثة أشياء أساسية تصنع الشاب القوي الأمين: الإرادة، الدقة، الطموح".
جدلية البقاء في الوطن والهجرة منه:
يكثر الجدل بين الناس عن الأكثر نفعا بين من بقي في الوطن ومن هاجر إلى الخارج، وصل في بعض الأحيان إلى بخس حقوق الآخرين لأنهم اتخذوا قرارا بناء على معطيات الزمان وحيثيات المكان. وللبروفيسور رأيه في الموضوع فيقول:
"أؤمن أن الباحثين الذين خرجوا من الجزائر إنما أرجلهم هناك ولكن قلوبهم في وطنهم، علينا فقط إيجاد الحروف المناسبة للتحاور معهم، إنه علينا أن نجد طريقة للاستفادة منهم حيث هم ولا يجب أن نطالبهم بالعودة ليكونوا نافعين لوطنهم، علينا أن نستغل فرص زيارتهم لعائلاتهم وننظم لهم برامج في جامعاتنا. وليس المطلوب منهم أن يحلوا محل الأساتذة الموجودين، ولكن نستفيد منهم ليوسعوا مجال الرؤية في جامعاتنا ولطلبتنا، وليس من أجل أن يأخذوا أبناء الوطن إلى الخارج".
إنني لا أقول أنهم هجروا وطنهم، وإنما أقول ربما لم يجدوا الجو الذي يساعدهم على الإبداع وعلى التميّز؛ فمن خرج من الوطن للتكوين والتعلم ومن بقي داخله كلاهما سيفيد الوطن.
إن السؤال الحقيقي الذي أسأل نفسي دائما هو: ماذا يحتاج الوطن مني؟ وكما قيل: لا تسألوا ماذا قدم لكم الوطن، ولكن اسألوا ماذا قدمتم له؟
إننا بحاجة إلى توجيه الطاقة نحو البناء وليس للبقاء في الصدام والصراع؛ فقد جُبِلنا على التعاون والتآزر في الأزمات، لماذا لا تكون سجية فينا في كل الظروف؛ في السراء والضراء؟ هل ننتظر الحزن فقط لنتآزر؟.
"الصلح بين المتخاصمين في المجتمع يهدف إلى أن يستفيد من كل فرد فيه، لا أن يكون طرف غانما والآخر خاسرا، وإن الهدف من الصلح هو كيف يمكن أن يتراضى الطرفان في النهاية".
التربية، التعليم، البحث العلمي:
أرى أن مستقبل الجزائر هو في مدارسنا، وعندما اخترنا مهنة التعليم ليس من أجل أن نصبح أغنياء ولكن من أن أجل نقوم بها بطريقة صحيحة، فأنا أجد السعادة عندما أصل إلى أن أؤثر إيجابيا في طالب واحد فقط، وأفرح بنجاح تلاميذي، وأرى أن "نجاح الأستاذ يقيّم عندما يرى أن تلاميذه قد تجاوزوه في العلم".
ومهمة التعليم لا تكتمل إذا لم يسندها الأولياء بطريقة فعالة، لذا أقول لهم دعوا أبناءكم يعيشون شغفهم، دعوهم يواصلوا ما يحبون وامنحوهم الثقة، ففي بعض الأحيان على الأب أن يتنازل عن بعض المسؤوليات لابنه لمنحه الثقة في نفسه.
"حاولت أكثر من مرة حل لغز المكعب السحري بعقلية التفكير الرياضي فكنت أفشل، بينما أولادي يقومون بذلك بسهولة فقال لي أحدهم: أبي أن تفكر أكثر من اللازم".
إن ثقة الابن في نفسه ستجعل منه إنسانا مبادرا، وكما نعرف Le premier de cordée هو المبادِر الذي يفتح الطريق لزملائه، وهي مقتبسة من المغامر الأول الذي يصعد الجبل ويثبت الحبل لزملائه، واختيار هذا المبادر يكون بناء على مهاراته، وبسطته في الجسم، وأخلاقه، وعندما يتعب يترك مكانه لمن يأتي بعده.
"إذا استطاع الطالب أن يبلّغ معنًى من تخصصه إلى إنسان عامي بطريقة مبسطة، فهذا يعني أنه قد استوعب ما يدرس"
وبهذا نمكّن لثقافة المبادرة في أنفس أبنائنا عوض ذهنية التبرير وإلقاء اللوم على الآخرين. وبهذا الذهنية سنكوّن باحثين جادّين يمكنهم الاسهام في البحث العلمي وإنتاج المعرفة.
إن الثقة التي نحتاجها في أبنائنا الباحثين هي التي ستخلصنا من التبعية والخنوع، فعندما تشتري برنامجا إلكترونيا "Logiciel من دولة ما فأنت تشتري أيضا جزء من حضارتها، فذلك البرنامج "Logiciel" يسيّر طريقة عيشك، ولا تعرف ما أُدخل فيه ضدك، لذا علينا أن ننشيء برامجنا بأنفسنا.
"إن الحروب القادمة ستحسم نتيجتها في المخابر وليس في أرضية المعركة".
عن هذا التكريم:
هذا التكريم هو مفاجأة بالنسبة لي، وقد أخفاها عني صديقي د. يونس قرار، وأنا سعيد بذلك، وأود أن أقول أن هذا التكريم ليس لشخصي وإنما هو تكريم للفئة التي أمثلها، إنه تكريم لكل الجزائر ولكل من يعمل لأجلها.
إن هذا التكريم لن يفيدني كثيرا، فكل غايتي أن أطمئن على الأجيال القادمة، أريد أن أتأكد بأنني لم أمض حياتي في الهامش، أو لم أقدم شيئا لهذا العالم.
رسالته لمؤسسة وسام العالم الجزائري:
"واصلوا في هذا الطريق، فما تقومون به هو أساسي في حياة المجتمع".
Podcast الوسام
محتوى سمعي من انتاج مؤسسة وسام العالم الجزائري, تابعنا على:
google-podcast spotify apple-podcast