عائشة نجار

من أحضان واد سوف العريقة جاءنا الممتلئ بفضول المعرفة، من دروب «الإلكترونيات الدقيقة» جاءنا المتيّم بالاختراع، ومن تربة الجزائر العميقة، جاءنا المتعدد في واحد: بلقاسم حبة، راغبا في نثر بذور الإمكان، في اكتناز المعنى ومحو الدهشة، أتانا مفتتنًا بالشرائح الدقيقة للأمل.

ممسكًا بيده يسلّمه الأمانة، يعود الوسام عودًا حميدًا في طبعة ثامنة في يمن وبركة ، ليرسم خطوط وإحداثيات المسار، يردّد لحن العمل في سيمفونية الحياة، وليؤكد أن «نعم، للجزائر علماؤها».

من بعيد قد لا تلمح فيه سوى صورة رجل متوسط القامة لا يبارح سترته الأنيقة لكنه حين يتحدّث تنطبع في ذهنك صورة واحدة؛ هامة رجل ظلت تشع بتواضع الكبار، دون أن تنفصل عن بساطة مُحيّا شخص يود أن لا يكبر أبدا. إنسان يمثّل البساطة كلّها،

ملأ صيته أصقاع المعمورة، واشتهر اسمه بما اخترع من دقائق ولفائف التكنولوجيا، وحضوره في القوائم الأولى لتصنيف المخترعات، فكان بذلك سفيرا وجيها للجزائر بحق.

مسح جغرافيا العالم مرتحلا من أقصى غربه في الولايات المتحدة إلى أقصى شرقه في اليابان، متنقّلًا من بادية الصحراء إلـى رئة تكنولوجيا العالم في الإلكترونيات بواد السليكون ثمّ إلى فضاء غوغل الفسيح، باحثًا عن عبق اختراع جديد، في قصة عشق لا تنتهي.

له بصمة بارزة في التكنولوجيا التي نستعملها كلّ يوم، معروف بصاحب الألف اختراع، متمكّن من لغة موليير، وإتقانه للغة شكسبير، مع رصيده في لغة الضاد إضافة إلى اليابانيّة على صعوبتها، إلا أنّه يفضّل أن يتحدّث بلهجة واد سوف المحليّة الجزائريّة بكلّ تواضع عميق.

عالمٌ يردّد اسم الجزائر باستمرار وكأنّه يذكّرنا في كلّ مرة أن انتماءه الأصيل، لا يفتخر بجزائريته مطأطأ الرّأس، لكنّه يردّدها ساطعًا نجمه عاليا في سماء الاختراع، ردّد عاليا نشيد الإمكان، مرتقيا سلّم الأسباب.

 

بلقاسم حبّة مكرّمًا...

الاحتفاء بالعالم المخترع بين محبّيه يكشف وجها آخر عن بلقاسم حبّة، حين وقف على منصة التكريم، عبثا حاول أن يسيطر على كلماته، عبثا يحاول أن لا تنفلت منه دموعه، فحرارة وعفوية اللقاء كانت أكبر من المتوقع، وبأخلاق جمّة يؤْثر صاحب الألف اختراع، أمّه على نفسه؛ مبتهجا لوقوفها معه لحظة نجاحه، متنازلا عن استلامه للوسام معترفا بفضلها وأحقيّتها بشرف المنزلة قائلا: «هي الأحقّ مني بالوسام».  

كما أبى معلمه في الابتدائي إلا أن يكون بجانبه مقاسما إياه لحظة التتويج، فبدى الرجل العالم أفخر ما يكون، وكأنّه يستشعر تلك النكهة الخاصة التي يحملها تكريم وطنه، نكهة مختلفة تماما عن ألف تكريم وتتويج خارجه. 

 

نقطةُ البدْء... مسيرةٌ  حافلة

لحظة الحوار مع العالم المخترع أنعشت ذاكرةً توصف نوعا ما بأنّها قديمة، فالحديث بدأ من رحلة الانطلاق ونقطة البدء من على رمال المغيّر بواد سوف، أين مشى خطواته الأولى. ففي سن صغيرة كشف عن موهبة وذكاء حاد، جرّب الاختراع في مرحلة مبكرة، أحبّ المدرسة كثيرا وتدرج عبر مختلف أطوارها حتى تخرّج في قسم الفيزياء بجامعة هواري بومدين بباب الزوار.

واصل دراسته العليا بالولايات المتحدة الأمريكية بجامعة «ستانفورد» ليتوج أخيرا طموحه المعرفي بحصوله على الدكتوراه في الإلكترونيات، بعدها أصبح اسمه مطلوبا في مركز بحث بشركة " أي بي أم "  (I.B.M)، هنالك سيفتح عينيه على الاختراع أين سيلج عالما جديدا، حيث أنجز في 6 سنوات عدة اختراعات، قبل أن تطلبه شركة يابانية للعمل معه.

لكنّ حبّه للجزائر واستعداده لخدمتها جعله لا يتوانى في رفض هذه الفرصة الذهبية ميمّما شطر الجزائر، ليلتحق أستاذا مدرّسا بجامعة بسكرة، فأبى إلا أن يكون أستاذا مميزا لطلبته.

لكنه في لحظة ما من لحظات سوء الأحوال الأمنيّة التي ألقت بظلالها على البلاد، وبحثا عن فضاءات أرحب للبحث العلمي، يجد نفسه مضطرا للانقياد إلى واقع الهجرة التي تبصم مسار غيره من الباحثين، ليغادر في رحلة جديدة، لكن هذه المرّة ليس إلى «ستانفورد» بـديار العم سام، بل سيتوجه شرقا نحو اليابان ليعمل في شركة " أن إي سي" (N.E.C)، ويحظى على إثر ذلك باعتراف عال في رحاب مخابرها.

لن يتوقف الألق عند هذا الحد، بل سيتواصل مع تعيينه بشركة (Tessera) الأمريكية ، وجوجل بلاتفورم، أين سيشقّ طريقه نحو التميز.

 

صاحب الألف اختراع

وعلى طول هذه الاجتهادات، فإن هذا المهاجر إلى العلم حبا والتزاما، سيكشف عن رقم صعب في ميدان الاختراع، ففي كل محاولة مفترضة لتصنيف الاختراعات، إلا ويوضع اسم بلقاسم حبة في الصفوف الأولى؛ صنوًا لشركات عملاقة لما له من أيادٍ بيضاء على كثير من الاختراعات، والسبق يكون من توقيعه دوما، فقد كان الأفضل بين مخترعي شركة NEC اليابانية 1992، والأفضل في شركة Tessera الأمريكية لأربع سنوات متتالية، الأول إفريقيا من حيث عدد براءات الاختراع، ضمن الأفضل في العالم مع مائة مخترع من 2008 إلى 2015.

فالرجل لم يكن مجرد عابر سبيل في باحة الاختراع، بل كان وما يزال، علَما بارزا لا يقتنع بما يؤشّر إليه العدّاد الذي يحصي اختراعاته، ولا بضخامة العدد (1000)... لا يهمه أن يصل إلى الاكتمال بقدر ما يهمه أن لا يتوقف عن المسير، وأن لا يحس أن شغف البحث قد غادره.

 

كيف السبيل إلى لمّ شمل طاقات الوطن؟

ذلكم السؤال الملتهب الذي عانقه طويلا، فـبلقاسم المهاجر، لم يقدم البتة الاستقالة من جزائريته، حتى لو قيل أنّ ثقافة الاعتراف تظل نصا غائبا في السجل الوطني، لكنها لم تكن كذلك معه، فقد آثر أن يلم شمل إخوته في دم الوطن الواحد، حين أطلق مبادرة جريئة ترمي إلى تجميع العقول الجزائرية المهاجرة، وتشجيعهم وتيسير سبل التواصل بينهم في موقع Algerian inventors الذي يضم قرابة 420 عالماً، يملكون مجتمعين أكثر من 2000 براءة اختراع في الإلكترونيات الدقيقة والاتصالات والتكنولوجيا الحيوية وغيرها، بما فيها معلوماتهم لتسهيل تبادل المعلومات والخبرات وإنشاء المؤسسات، والاتصال بالجامعات ومراكز البحوث العربية، بهدف دعمها بالتكنولوجيات المتطوّرة.

 

مخترع الشرائح الدقيقة للإمكان والأمل

خلال حديثه الحميمي مع أحبته كان يخاطب فيهم روح الإنسان الواثقة التي يفترض أن تتولد في أعماقهم، داعيا إياهم إلى عدم تقديم الاستقالة والانضباط بثقافة المقاعد الشاغرة، كما كان ينبه دوما إلى أن الباحث الجاد هو ذاك الذي يبذل كل ما في وسعه لتحقيق أهدافه، ولا يستسلم أمام العقبات والمشاكل التي تعترض طريقه، والتي وضعت لتحفّزه لا لتعرقله، لهذا ما ينفك يؤكد لكلّ واحد أنّه " يجب أن يعرف في داخله ما الذي يستطيع أن يفعل ويقدّم".

إنه الدرس الذي يعلمنا إياه مخترع الشرائح الدقيقة للإمكان والأمل، وهو يحكي قصته؛ قصة نجاح شاب جزائري عادي شقّ طريقه من بلدة صغيرة ليصبح عضوًا في منصة مركز البيانات لجوجل. فـ"حبّة" يمتلك قدرة بهية على تطويع قصة حياته درسا ملهما للطلبة والباحثين، بما يكشف عن عفويته وقوّة شخصيّته، يعرف ماذا يريد، كما يدرك تماما ما يملكه من ملكات، وتلك ميزة أخرى يتفرّد بها سليل الجزائر.

لم يكن يود كثيرا أن يحدثنا عن أفضل الأشياء في حياته بقدر ما كان يود الحديث عن أسوئها، لأنها علمته وطورته وجعلت منه الرجل الذي هو واقف أمامنا. فقد خبر المتيّم بالاختراع الحياة في تلويناتها العديدة، وفي تقلباتها ومفاجآتها ومواجعها المختلفة، لنستمع إليه و هو يحكي بمرارة اليائس وبألم مرير ما عدّه اللحظة الأصعب في لحظات حياته، حين ولادة ابنه مريضا لكنه تخطّى العقبة وتعلّم منها أشياء جديدة في حياته وبقي قادرا على إدارة أشرعة مركبه في الاتجاه الذي يريد، دون أن يضطر للانحناء أمام العاصفة مهما كانت درجة قوتها.

كلّ هذه اللحظات الدالة في أثناء هذا الاحتفاء الذي أوقفنا أمام الكثير من المفاهيم الغائبة، ستبقى عناوينها بارزة تذكرنا بأن الجزائر معطاءة، أنجبت واحدا من الأفذاذ اسمه «بلقاسم حبّة»، ذلك النموذج الأمثل للمخترع المربي الذي لا يملّ من توزيع نصائحه وخبرته على الجيل الشاب، محذّرا إيّاهم من مغبّة السّقوط في ذهان الاستحالة، داعيا إيّاهم إلى تحدّي الظروف الصعبة بدل الاستكانة.

هذا هو الأستاذ حبة يفرض عليك احترامه وإصاغة السمع له أيضا، بفضل معرفته وتواضعه الجليل ودماثة أخلاقه العالية، وما اجتماع أحبته به في هذا اليوم للاحتفاء بمساره الجاد سوى دليل آخر على مدى حاجتنا المتواصلة إلى الكثيرين من أمثاله.