محمد الهادي الحسني

أهطع يوم السبت الماضي عشرات من العلماء والأساتذة - ذكرانا وإناثا - إلى فندق "الميركير" بالدار البيضاء، مجيبين دعوة معهد ليس كأحد من المعاهد، لتكريم عالم ليس كأحد من العلماء بوسام ليس كأحد من الأوسمة، فأما العلماء فهم بعض خيرة الجزائريين الذين اختلفت تخصصاتهم، وتنوعت اهتماماتهم، ولكنهم اتفقوا على خدمة العلم ونشره محصّنا بالخلق الحسن، شعارهم في ذلك قول الشاعر:  

لا تحسبنّ العلم ينفع وحده *** ما لم يتوّج ربّه بخلاق.

وأما المعهد فهو "معهد المناهج" الذي يبرهن على أن القائمين عليه آتاهم ربهم رشدا لما علم فيهم من علم وعمل، فهو وإن لم يمض على إنشائه إلا بعض سنوات إلا أنه تفوق - بجدية القائمين عليه ونشاطهم - على غيره من المعاهد والجامعات، التي تملك الأموال الطائلة، والإمكانات الهائلة، ولكن همم المسؤولين فيها فاشلة.. و "ما راءِ كمن سمع".

وأما العالم المكرّم فهو محمّد بولنوار زيان، الذي انعكست معاني اسمه على شخصيته، فهو محمد، أي محمود الذكر، ولا يحمد إلا من امتاز في ميدان من الميادين، والميدان الذي امتاز فيه محمد هو العلم الذي بلغ فيه في تخصصه أعلى المراتب وأسمى الأماكن.. والعلم نور، ومن طبيعة النور أن يضيء ما حوله فكان بولنوار، هذه الأنوار التي زانت صاحبها فهو زيّان، إذ من مبادئه التي ينصح بها "تعلم واعمل لتسعد نفسك ومن حولك".

وأما الوسام فهو "وسام العالم الجزائري" الذي أنشأه "معهد المناهج"، شعورا من القائمين عليه بقيمة العلم، وتقديرا منهم لعلماء الجزائر الذين لم تقدرهم دولتهم. وأقرب مثال على إهمال المسؤولين للعلماء ما وقع في التاسع من هذا الشهر، حيث توفى الله - عز وجل - الدكتور محمد ابن عبد الكريم فما دلّ الجزائريين على موته إلا خبر قصير نشر في بعض الجرائد، ومن قبله توفيت مطربة، فكادت الحياة تتوقف في الجزائر، وأرسلت طائرة خاصة لنقل جثمانها، وقبرت في مهرجان.. وجندت وسائل الإعلام الثقيلة للحديث عنها، والتنويه بـ"مآثرها". والطيور على أشكالها تقع.

لقد منح هذا الوسام الصغير - في عمره ومبناه، الكبير في بعده ومعناه- في طبعته الأولى للدكتور أبو القاسم سعد الله، وفي طبعته الثانية للدكتورين محمد ناصر وجمال ميموني، وفي طبعته الثالثة للدكتور عبد الرزاق ڤسوم والأستاذ محمد الهادي الحسني، وفي طبعته الرابعة للدكتور سعيد بويزري، وأحرز عليه في هذه الطبعة الخامسة الدكتور محمد بولنوار زيان، الذي قدر الله -عز وجل- أن يكون إحدى آياته يدمغ بها باطل أحد المبطلين الفرنسيين وهو بيير مورلان، الذي أتبعه شيطان الجن، وسخّره لأقبح المهمات شياطين الإنس من الفرنسيين.

لقد خان هذا الـ "بيير" شرف العلم وأمانته، وانسلخ من الضمير العلمي وباعه بثمن بخس، وذبح المنهج العلمي على مذبح الهوى المذموم والتعصب العرقي المقيت، إذ زعم - لجهله المركّب، وسوء خلقه، وتبريرا لجريمة قومه الفرنسيين الذين منعوا الجزائريين من أداء واجبهم في طلب العلم - أن الجزائريين "غير قابلين للتربية"، كبرت كلمة تخرج من فم ابن أمه هذا.. الذي جهل - أو خان - قول أحد كبار علماء قومه، وهو روني ديكارت، الذي ينسب له قول معناه "إن أعدل قسمة قسمها الله بين البشر هي العقل"، الذي هو مناط التكليف.

إن مقولة هذا السفيه تصور الله - سبحانه وتعالى - ظالما، وما هو بظلام للعبيد، وقد حرّم الظلم على نفسه، ويجعل فعله منكرا، وإنه - تعالى - لا يأمر بالمنكر ولا يأتيه...

إن هذا العالم الجزائري الذي سفه ذلك الـ"بيير" وقومه من نوابغ علم الرياضيات، الذي هو من أكثر العلوم صعوبة. وقد ولد في بلدة طيبة من وطننا، وهي بلدة عين التوتة بمنطقة الأوراس في عام 1966، وتحصل بجده واجتهاده على أعلى الشهادات، وتخرج في أرقى المعاهد والكليات، وهو يعمل في أشهر الجامعات، وينقل علمه إلى غيره من العلماء عبر الملتقيات، والمتخصص من المجلات..

لقد لمس الحاضرون في حفل تكريم هذا العالم الجزائري، الذي يجسد شموخ الأوراس وصلابته، لمسوا أربعة أمور تزيده تقديرا وتكريما هي:

❊ تديّنه، فهو ملتزم بدينه، حريص على إسلامه الذي هو دين العلم والعقل، مما يؤيد مقولة العالم الفرنسي كلود تراسمتان وهي: "لقد أصبح الكفر مستحيلا"، فإن قال مجادل بالباطل ليدحض به الحق: فما بالنا لم نسمع عن إسلام هذا العالم الفرنسي؟ قلنا: لعله ممن يكتم إيمانه، فإن كان مات (في منتصف التسعينيات من القرن الماضي) على الكفر، قلنا: فهو - إذن- ممن ينطبق عليهم قوله تعالى: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوّا"، وقد ذكّرني تكريم هذا العالم الرياضي بمقولة للإمام إبراهيم بيوض تدل على عمق فهمه للإسلام، وحسن فقهه لمقاصد القرآن، وهي: "إن الحساب من علوم القرآن"، وقد سمعت هذه المقولة في خطبة جمعة بمسجد مدينة الڤرارة.

حبه لوطنه الجزائر، فهو لم يتنكر لفضلها عليه، ويفخر بالانتساب إليها، ويرفع ذكرها، وينشر في الآفاق اسمها، ولا يلطخه كما يفعل سفهاؤنا من زوار مزابل الغرب، حيث يُذهِبون عقولهم بالخمر، ويبذرون أموالهم في الفسق والميسر، ويأتون الفواحش ما ظهر منها وما بطن.. وهو لا يرجو من وطنه إلا -كما قال-: "أن أحصل على قاعة في ركن جامعة أدرس فيها أبناء وطني".

برّه بوالديه، وإشادته بفضلهما، خاصة أمه الحقيقة بالإشادة، لأنها "مجاهدة" أنجبت للجزائر عشرا من الكريمات، وخمسا من الكرام، مما يذكر بقول محمد العيد آل خليفة:

إن الجزائر لم تزل في نسلها أُما ولدوا خصبة الأرحام، ولو اطلع أحدنا على جواز هذه المرأة الأصيلة - إن كان لها جواز سفر - لوجد مكتوبا فيه بأنها عاطلة، أو بطالة، أو ماكثة بالبيت استقلالا لدورها، واستعظاما للراقصات، وللكاسيات العاريات.. ومن على رؤوسهن كأسنمة البخت.

تواضعه، فمن رأى هذا العالم أو سمعه ظنه إنسانا عاديا، وما ذلك إلا لتخلقه بخلق التواضع، فهو يتحدث بهدوء، ولا يمشي في الأرض مرحا، وغير مصاب بداعي العجب والغرور اللذين يقصمان الظهور، وإذا من حق عالمنا أن يردد مع الحكيم أبي العلاء المعري: "وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل"، فما منعه من ذلك إلا أصله النبيل، وخلقه الأصيل.

فهنيئا لعالمنا بوسامه، ونرجو له مزيدا من التألق والتفوق، وشكرا لمعهد المناهج التميز بالمنهجية في العلم، والانضباط والجدية في العلم، ونبارك ما صرح به مديره الدكتور محمد بابا عمي من العزم على إنشاء "مؤسسة" تتفرغ لهذا "الوسام"... و"لمثل هذا فليعمل العاملون"، "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون".

المصدر: الشروق أونلاين.