
يعود إلينا ككل عام حفلُ وسام العالم الجزائري في طبعته الرابعة عشر، وهو يحمل منذ إعلان تسجيلاته وعودا بتحديات جديدة وحيثيات مختلفة وأسرار كثيرة.. تفتح التسجيلات أسبوعا قبل الموعد المقرر، وتغلق في غضون ثمان وأربعين ساعة لاكتمال المقاعد وزيادة، مجتمع الوسام وفي بعاداته والتزامه، وفور إغلاق التسجيلات تُعلن عودة الأمسية التربوية، وهذا خبر سعيد يحِن إليه كل من كان حاضرا في الأمسيات السابقة قبل انقطاعها، وبخاصة أمسية طبعة وسام البروفيسور بولنوار زيان، التي حمل فيها قلما واستعمل سبورة في مشهد العالم يشرح لتلاميذه ويلهمهم.. فعلى هذه الأجواء الحماسية كان الترقب لليوم الموعود شديدا...
يوم السبت، الثامنة تماما، كل شيء جاهز لاستقبال الحضور الكرام، الرايات قد نصبت، والأشرعة كذلك، وقاعة الأطلس بالوسام توسمت وتزينت، وبصور العلماء توشحت، والحضور يزداد كثافة قبيل لحظات من فتح القاعة للدخول، وأثناء ذلك يستغل المارة أمام جامع التقوى، وقهوة "مارشي نيلسون" للاستفسار عما يحصل هنا وكذا التقاط الصور مع الرايات المرفرفة، نحن هنا في حي شعبي عريق اسمه الكبير باب الواد..
الساعة الصفر، التاسعة تماما، وأنا نصف منظم، نصف حاضر، بل ضِعف حاضر، وأحرَصُ متابعٍ أحاول تمعّن كل تفصيلة فنية وتأمل كل لفتة دقيقة، الموجهون المرافقون في أماكنهم، والشارات على أعناق الحاضرين وصدورهم، والبوابة الداخلية تفتح الآن، وخلال نصف ساعة تمتلأ المقاعد الخلفية، ويتم التوجيه بالتبع إلى المقاعد الفوقية، وكالعادة يحرص الجميع على أن يجلس في مسافة الصفر من خشبة العرض، وفي هذا يكون التسديد وتكون المقاربة..
على العاشرة وثلاث دقائق، ينطلق الحفل، آيات بينات من الذكر الحكيم، السلام الوطني قسما، ومن بعد هذا وقفة ترحم وتحية وتلاوة لسورة الفاتحة على أرواح الشهداء المجاهدين بأرض الرباط غزة..
كان الحفل في ثلاث ساعات مبرمجا، وبالتدقيق 180 دقيقة.. وقد تم تحديدا في 188 دقيقة! تم الاعتذار عن ثلاث منها، وبقية الخمسة دقائق استهلكتها التقنية، والبث على المنصات منشور!
كان ساعاتٍ ثلاثةً، الأولى تقديم للحفل وكلمات افتتاحية، بدأها العلماء السادة ناصر الدين سعيدوني في كلمة جليلة حول ضرورة الاحتفاء بالعلم وأهله، والغايات الكبرى لهذا الصنيع، مع ضرورة الالتفاف حول المؤسسة، تبعه من بعده العلماء الأفاضل أحمد جبار، بلقاسم حبة، بن عيسى عبد النبي..
تعاقبت الكلمات تترا، من أهل العلم والرأي وأهل التدبير والسياسة.. في الإشادة بالجهود المبذولة ودعمها، وفي الاحتفاء بالمكرمين وتقديرهما..
كانت اللمسة الفنية في الحفل راقية جدا، وأما العَرْضَين المصورين فكانا في غاية من الإبداع بحيث تدمع عين كل من شاهدهما، دِقَّة في تصوير حياة عالِمَين قديرين، وبراعةٌ في تجسيد "الدراما" كما لو أنها ما حدثت حقا...
أول المكرمين، البروفيسور أحمد موساوي، "العالم في محرابه"، الذي كرّس حياته للعلم والمعرفة، نشاهد العرض الموثّق ونبصر عَيانا عالم المنطق وهو يحكي قصة جهاده في العلم، ويروي رحلته التي مرت عبر السوربون والإمارات من غير أن تُغْريَه واحدة عن بلده، ليتمم المسيرة بالعمل والتفاني في بلاده أرض المليون ونصف المليون شهيد أرض الجزائر.. أحمد موساوي أول من يتحصل على دكتوراه دولة في المنطق، وقد ترجم نصوصا منطقية نفيسة وحققها، وأنجز أعمالا علمية عميقة وأتقن فيها، على غرار معجم المناطقة الذي جعله موسوعة... وقد صعد إلى المنصة ليلقي كلمته بالمناسبة، فكان الحديث عن النقلة الإسلامية الفارقة للمنطق البشري، ومن لم يكن يعرف عمق طرح البروفيسور قد أدركه الآن..
يرتقي البروفيسور إلى المنصة والحضور يقف إجلالا وإكراما، مصفقا محييا أهل العلم والفضل د. أحمد موساوي..
من المنطق إلى اللغة، وتطويع الآلة التقنية للسان الإنساني، إلى سليل منطقة مداوروش، أرض أقدم جامعة بإفريقيا، وحيث كان القديس أوغسطين، البروفيسور بشير حْليمي، عالم الكمبيوتر..
قصة حياة مفعمة بمعاني الأمل والتحدي، من "مداوروش" بدأت، وفي "كندا" استقرت.. وبالجزائر ارتبطت ولا تزال دوما، لم يكن أحد ليعلم أنّ الارتباط الشديد بالعائلة والوالدة، سيكون مقدمة إنجاز باهر لا يستطيع أحد في العالم تجاوزه، فالقصة: رغبة البروفيسور أن يعايد أهله ببطاقة محررة بالكمبيوتر فيها "عيد سعيد"، أما الإنجاز فهو: تعليم الكمبيوتر تحرير الحرف العربي بما له من خصائص الانطلاق من اليمين وتغير الشكل بحسب الموقع في الكلمة، وقد كان ثمة طرق أخرى غير طريقة البروفيسور، بيد أن جميعها كان يشوه الحرف العربي عدا طريقة أستاذنا، الذي فضّل تليين التقنية للسان لا العكس..
يتداول الكلمة في العرضِ المصوَّرِ أختُ البروفيسور ومعلمُّوه ليرسموا معالم الحكاية.. وقوة الإخراج مع ثراء القصة بالمعاني كفيلة لتغذي المُشَاهِد بمشاعر التعاطف ثم العزم والإلهام والإصرار..
حانت لحظة كلمة الدكتور محمد باباعمي، وكانت وسام الوسام، كلمة بليغة جاءت هذه المرة بحيز زمني فوق المعتاد، طويلة من غير إملال، وقصيرة من غير إخلال.. جعلها الدكتور في الحديث عن المقامات السبعة، الله، الرسول، الوالدين، المعلم، العالم، العامل، الإنسان.. ومن حروفها "أ عـ ـم ا لـ ـو ر ع"... وبها أبرز في الوسام بعده الإيماني الروحي، الذي يرفع بالإنسان من دركات النظرة المادية إلى علياء الرؤية التوحيدية..
اقتربت لحظات النهاية، وانطلقت التكريمات للمساهمين ورعاة المؤسسة، وكل مؤسسة تشعر بالفخر في كونها جزءا من الحدث، فتجدد العهد بالوفاء، كما يقبل من سواها على السخاء.
الآن، يعلن المنشط اللحظة المنتظرة، لحظة تكريم عالمي الجزائر بالوسام، تشرئب الأعناق، ويقف الحضور، ليشاهدوا ارتقاء العالمين إلى المنصة، لتسلم الوسام من العلماء الذين سبق تكريمهم، أجمل به مشهدا، وأنعم به منظرا، كواكب ونجوم تزين سماء جزائر الشهداء والعلماء..
البروفيسور أحمد موساوي، العالم في محرابه، عالم الجزائر 2023م..
البروفيسور بشير حليمي، الذي ليّن التكنولوجيا للغة الضاد، عالم الجزائر 2023م..
على إثر هذا أُسدِل الستار على الوسام* في الطبعة الرابعة عشر، لينطلق صداه في الآفاق، ويجوب ذكره في البلدان، حاملا معاني التقدير والتبجيل للعالم الجزائري، مرددا بكل ثقة:
نعم، للجزائر علماؤها..
ويبقى السؤال الذي يطرحه الوسامُ ذاتُه قولا وفعلا: كيف يمكن أن تستفيد الجزائر حقا من هذه القامات العلمية؟ وكيف يستقر العلم في بلادنا ليصلي الصلاة حضريّة رباعية؟ كيف ننتقل إلى مرحلة اعتبار العلم حالة عفوية لا مواسم ظرفية؟ وكيف يكون العلم في موقعه الذي ينبغي أن يكون فيه؟ فيكون متبوعا لا تابعا، سيدا رائدا لا خاضعا لأهواء رجال السياسة والاقتصاد والأموال يزيغون به ذات اليمين وذات الشمال..
نعم، للجزائر علماؤها.. وللجزائر إمكان الارتقاء إلى عليائها.. فإن صدُقَت النوايا، وارتفعت العزائم، وأخلصت في المساعي، قدِرنا على تجاوز التحديات، ولا يكون هذا إلا بفضل الله وحده، فهو الناصر وعليه التكلان، ودونه الخسارة والمهانة والخذلان، فاللهم أبرم للأمة أمر رُشْد يعِزّ به العلماء العاملون، آمين والحمد لله رب العالمين..
محمد هيبة
07 جمادى الثانية 1445هـ
20 ديسمبر 2023م
جامعة الأمير، قسنطينة.
_______________
* الواقع أن الستار لم يسدل إلا على الحفل دون سواه، أما حركية الوسام فهي بفضل الله دائبة، جنودها على الدوام نسأل الله أن يبارك فيهم ويكلل بالسداد مساعيهم، فمن بعد الحفل، كانت الأمسية التربوية مساء، ومن اليوم المشهود كانت رحلة الوسام إلى أعماق مداوروش مسقط رأس العالم بشير حليمي، تكريسا لفكرة أن لا يستأثر بالوسام ناسٌ دون آخرين، أو طبقة دون أخرى، فالعلم يفتح ذراعيه لكل الراغبين، إنما السؤال عن المقبلين..
Podcast الوسام
محتوى سمعي من انتاج مؤسسة وسام العالم الجزائري, تابعنا على:
google-podcast spotify apple-podcast