الطالب بن عدون محمد

بينما أنا أخط الأحرف الأولى على هذا الحاسب تأريخا لهذا الحدث تفتقت مخيلتي بتذكيري أن هاته النصوص المكتوبة ستكون بعد مرور مئة سنة من الآن عبارة عن منسوخات وتقارير قيمة يلجأُ إليها الباحثون في الوقت المعاصر من أجل أن يستعيدوا حيثيات من هذه الرؤية الحضارية التي قد بدأت معالمها تهندس واقع ثلاثة عشر سنة من الآن، تلمست فجأة من أصابعي الارتجاف والتردد والتوجس خيفة من كوني سارقا أو مدلسا للحقائق أو ربما للدقائق واللحظات التي قد التقت فيها جموع من الجزائريين في مقصد واحد وهو تخليد ذكرى تكريم علمائها، عزمت النية أن يكون التوثيق بعيدا عن المتلقيات الفوتوغرافية التي يجتزؤها العقل السطحي وحاولت الحفر عميقا والرصد في ما حول وما بين المعنى والمعنى بعيدا عن حيثيات الماجريات التفصيلية من حضور الكاميرات والشخوص.

   كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة صباحا، في يوم التاسع عشر من تشرين الثاني الموافق للسنة الثانية والعشرين بعد الألفين للميلاد، يصادف هذا اليوم الطبعة الثالثة عشر لوسام العالم الجزائري وقد يتساءل  القارئ أن هذا برتوكولا ؟ أم احتفالية دينية ؟ أم هو عيدٌ وطنيٌ ؟ وأقول بكل فخر أن هذا تأكيدا لجميعها، هو عيد وطني لأنه كان في الشهر الذي انطلقت فيه الشرارة الأولى للثورة التحريرية الجزائرية وفي نفس الوقت قد يكون رمزا دينيا لأن المقصد كان واضحا وهو إعلاء العلم وكلمة العالم توصية بالدين الحنيف ولمن  ألف هاته الأسرة والتواجد ضمنها قد تعتبر عادة وتقليدا رسميّا،  أتذكر أنّ المكان اتّسم بالهيبة والألفة واتّضاح الرؤية وبيان المعنى ولحظة انبلاج للصدور وهم يشاركون تكريم ثلاثة علماء من وطنهم، لا أخفي أنّ المسرح يستحضر روحاً خاصة بجماله وحسن تنظيمه أمام جموع غفيرة من  الناس إحياءً للنّشيد الوطنيّ الجزائريّ وإجلالا بنوفمبر الذي يخلّد صفحة من صفحات هذا المجتمع، بدأت حيثيات البرنامج بفيلم افتتاحي لهذه الطبعة الملحميّة منذ عامها الأول وكانت الكلمات التي تلفظ بها المكرمون تحدث دويّا خاصا والموجات الصوتية عالية التردد تُحدث ايقاعا خاصا في نفوس الحاضرين، أستحضر الكلمات التي كانت تُردّدها مكبرات الصوت حيث رددها العالم المكرم  في طبعاته السابقة داخل القاعة بصوت قوي "إنّ تربة الجزائري صالحة  فقط إن واتتها الظّروف".

    طبعا بعد نهاية الفيلم التوثيقي وملازمة الحاضرين لأمكنتهم وضبط موجات إيقاعهم مع لحظات الحفل تلته كلمة أولى من مهندس فكرة العالم الجزائري الدكتور: "محمد بباعمي"، لم تكن الجماهير قد استعادت حماستها بعدُ؛ حتى يعيد شحن هِمَمِهم قائلا «إن فرنسا قد أرادت توقيف التاريخ غير أننا سننتصر وأننا سنقف حتى ضد من يشكك في قدراتنا ونقول له: نعم للجزائر علماؤها". سيشهد حقا التاريخ بوقوف هذا الرجل الذي أوصل الليل بنهاره من إنجاح هذه الصناعة الحضارية الثاقبة والتي سترسم كرونولوجيا جديدة لتعيد بياض صفحات كانت تسيل منها حقبا من دماء هذا الوطن وستُكتب لهم الفضائل وراء هذا الجيل الذي سينشأ أمام نماذج وقصص راقية في صفوف العلم.

   ارتسم المخططون للبرنامج أن يكون التكريم الأول من نصيب الدكتورة: "قصباجي مرزوق" إنها المرأة المِقدامة افتتحت أبواب التكريم وكان لها الفضل في إنجاز أول خريطة للرياح في الجزائر فضلا عن تخصصها في الفيزياء وكيمياء الموائع وقد رأينا من خلالها قصتها الملهمة  والتي من شأنها  غلق أفواه الناعقين بأنّ العلم قد يتنافى مع الحضور الأخلاقي والبعد الإنساني والصناعة الإسلامية، رصد تجربتها في محاولة استجماع توليفة تتناسب إيقاعاتها تزامنيّا  بين الحضور علميا في مركز الطاقة الحرارية بالعاصمة وإلى جانب ذلك الحفاظ على استقرار أسرتها وتنشئة ابنيها،  كانت تجربة  ناجحة بتحقيق توازن المكونات داخل المعادلة الزمنية للباحثة.

    ما يمكن استتبابه في إضافتها العلميّة وهو التركيز على أهميّة الاستمرار في مشروع الطاقات الهوائية نظرا للاتجاهات الكبرى لاستراتيجيات الدول إلى الاعتماد على هذا النوع من الطاقات.

   أما التكريم الثاني كان للباحثة والدكتورة: "نعيمة بن كاري بوديداح"  إنّها شخصية محاربة بمعنى الكلمة ولمن يشكك في صدقية هاته العبارة أن يحاول حقيقة استيعاب تواجدها في صحاري عمان التي تلفح شموسها الوجوه  في كل شبر لتوثيق ومعاينة الفسيفساء المعماري، ترسيخ وقع كلماتها الأولى في أول دقيقة من فيلمها الذي يعرض تجربتها في مجال التدوين الحضاري للمعمار الإباضي عند المزابيين والعمانيين ومن شأنه أن يفتح حقبة للتاريخ المهمش بين طيات العمارة المندثرة في ربوع أراضيها، وما يلهمنا في تجربة الدكتورة: "نعيمة" هو  القدرة على توظيف الخلفية الهندسية والمعمارية من أجل التدوين الحضاري وأتذكر كلمتها حيث قالت: "إنّ إشكاليتنا في الوطن العربي هو عدم اهتمامنا بكتابة تاريخنا الذي سوف يصبح لا محال لبنة أساسية في بناء مستقبل الجيل القادم"، لا أخفي كذلك أنّ وقع محاضرتها التي ألقتها بين الحاضرين كانت غاية في الروعة مؤكدة بأن الزمن القادم هو زمن يصبح فيه الحق باطل والواجب غير إلزامي والباطل مشاعا بين الناس كما قال "زيغموند باومن" في عصر السيولة والميوعة القيمية حينها تصبح كل الأمور مباحة لا مرجعية تذكر ولا وجهة موحدة، ما عمّق في داخلي تجربة وكلمات الدكتورة نعيمة هو حرصها على الجانب الحضاريّ المُفتقد للأسف في كثير من الرؤى النخبوية وهذا ما يجعلني أتلمس خصوصيتها وحرقتها في عدم التساهل أمام هذه الهوّة وأمام هذا الفراغ الثقافي الذي نشهده إنه عصر مخيف تسوده الهلامية المعيارية والقدرة على التفاوض بدون وجود دعامات قيمية تأصل لهاته الرؤى الحضارية.

   التكريم الثالث كان اسمه يعلو المكان؛ إنها شخصية تحترق همّا من أجل وطن اسمه الجزائر "الدكتور يوسف منتالشتة" خبير أنظمة المعلوماتيّة والكمبيوتر الذي كان له الفضل في ربط الجزائر بخيوط الأنترنت أستطيع القول أنّ أهم الرسالات التي قدمها الدكتور: "يوسف" هو توحيد الإرادة السياسية من أجل خدمة العلم وهذا ما دعمه بقوله: «على الدولة أن تقوم بمساندة علمائها لأنهم هم من سيعينونهم في المستقبل"، طبعة هذا العام كانت خاصة جدا تعيد انقطاع الوسام منذ سنتين من شأن الإجراءات الصحية أن توقف الحدث طيلة هذه المدة إلا أنّ هاته الأوسمة ستحفر مصائر الكثير من الحاضرين هناك وقد تغير ربما واقعنا وتجعلنا نستعيد رؤية جديدة لوطنيتنا الجزائرية، وأختم هذا النص بكلمة الدكتور "يوسف منتالشتة": «إنّ الحروب القادمة ستُحسم نتائجها في المخابر وليس في أرض المعركة".