
لم يكن وِسام العالِم الجزائري مجرَّد فعاليَّة إكراميَّة لِلعلماء تُسلَّمُ فيها الأدرُع وتصَفِّق فيها راحات الأكفّ وتصدحُ فيها الزغاريد، بل كان يحملُ ورائه شيئًا يختلف كلّ الاختلاف عن ظاهِرِ "حفلة"، كان "رِحلة" رِساليَّة لم أتمنّى أن تنتهي أبدًا.
تفاصيلُ رِحلة هذه الطبعة الرابعة عشر تميّزَت بِعِبق ديسمبريّ خاص، ريحُ البطوليَّة والتضحية في سبيل العلم والوطن، ضمّت فيها قامتين علميَّتين تزخران بِثـقـلِها الأكاديميّ المُشرّف دام لأقرب من ثلاثة عقود من التاريخ: البروفيسور "أحمد موساوي"، والبروفيسور "بشير حليمي" حفِظهما الله وباركَ فيهما.
عالمان ساهما في تكريس أعمارِهما في سبيل الانجاز والانتاج، سهِرَ "وسام العالِم الجزائري" على ضمِّنا بهم منذ شهور من التجهيزِ والتأطير المُمتاز لِهذا الحدَث المَوعود، وكذلك نجح في ضمِّهِما بِنا بعد أن كَسَرَ حواجز رسميَّة كثيرة رفع فيها كُلفة الأسماء والألقاب وعزّز مُقابِلَها الأُلفة والانتماء العلمي واللُّحمَة الوطنية والفخر، أشعرتنا أنّنا على وصلٍ بِآباء لاقوا أبنائهم بعد وِحشة تغييبٍ طويلٍ، تشهدُ في خِطاباتِهم مُناصحةً وعِناية وتأدّبًا ممشوقاً بالتواضع والاحترام يستكينُ القلبُ عليه، وفلسفة حياةٍ ما كشفُوا الحجاب عنها إلا -عبر هذا الوِسام الفضيل- لِأخذِ العِبَرِ، والتنبيه من وُعورة الطريق التي يجتازُها طالبُ العِلم والتي لن تُصبِحَ أبدًا مُقتطَعًا سهلاً ميسورًا له في بلوغ أهدافهِ المَرجوَّةِ التي لن تُزفَّ إليه على طبقٍ منقوشٍ بالذهب بِسهولة وسيولة.
هنا كلّ عالِمٍ من المُكرّمين، حكى لنا (الوِسامُ) قِصّته، جنون المُغامرات، محاسِن الصُّدَف، مساوئ الأقدَار، تفاصيل ضيّ النفق القُتاميّ الضيّق الذي عبر فيه وسارَ إليه كلّ واحدٍ منهما، وهما مُنهكان، متثاقلان، مُتعبان، في حاجةِ، على وهن، إلاّ لكي يخرجا إلى النّوران، ويصلا إلينا بين أهدابِ الوِسام حاملين دِرعَ التكريم والتقدير.
ولعلَّ أكثر ما جعل رقرقات عيون الحاضرين بارزةً، هو تأثّر الجمهور في ثنايا الأحداث، وعُمق التفاصيل التي قصّها عالمينا لنا خلال إلقاء كلمتِهم النفيسة، وعبر الروبورتاج الذي صوّرُه القائمون على العرض، والذي عبٍّرا عن تضحيات مُلطَّخة بِحبّات عرقِ السهر والوحش والغربة ومقاومة عِصيان الظروف.
فالبروفيسور "أحمد موساوي" وهو أوّل جزائري حائز على دكتوراه في علم المنطِق، كان الوِسام قد سَرَد لنا أهمّ محطّات سيرته الذاتية، والتي كانت بين لوحات حفظ وترتيل القرآن الكريم في سنّ يافع، وبين انضمامه لِمدرسة فرنسية تفوّق فيها على أبناء المعلّمين والمستوطنين، وكيف تحصّل الدكتور أحمد موساوي المُكنّى بِــ "عمي السعيد" على منحة دراسية في جامعة السوربون -عن بُعد- كاحتيال من التمييز الإداري الفرنسي المانِع على الجزائريين للحصول على امتيازات كهذه، واستكمل دراساته الجامعية وهو بعيد عن خمسة من أطفاله، وخاض تجارب عديدة في تدريس مادة الفلسفة والإشراف عليها في الخارج والاطلاع على مناهجها وجديدها، ثم عاد وهو مُحمِّلٌ زادَه ولبنة تعبه إلى بلاده الجزائر كي يضع الثوابت والقواعد الأساسية لهذه المادة المتخصصة في التفكير والتنظير والتي نتج عنها المئات من الأساتذة والتلاميذ المتكوّنين على يده، والعشرات من المؤلفات البحثية التابعة لاسمه ومن انتاجه، فلا نقول إلاّ ربِحَت الفلسفة على يديك.
أمّا الدكتور "البروفيسور بشير حليمي" الباحث الجزائري الفذ في مجال التكنولوجيا الفائقة والمتحدث الدولي في لسانيات الكومبيوتر والاتصالات الصوتية والتشفير، ابن قرية "مداوروش" بِسوق أهراس، منطقة نائية بعيدة كشفها لنا روبورتاج الوسام وصوَّرَ لنا طفولة هذا الباحث، التي لم تكن طفولة سهلة يحصل فيها على ما تشتهي أنفس الصغار بمجرّد طَلبها، بل كان من عائلة بسيطة الإمكانيات، وبيته كان عتيق الزوايا مُفترشًا بِالطوب، منفيًّا عن المدينة ومتمركزًا في البادية الذي كان يقضي من خلالها 14 كلم ذهابًا وإيابًا للمدرسة، واعتمد فيها على نفسه لِشراء دراجة وإعانة ذويه بِماله الخاص المُجَمَّع من صناعات يدوية لِمُجسّمات من النحاس والأسلاك والبلاستيك !
ولا يمكنك أن تتجاوَز النادرة التي جعلت الدكتور حليمي يحصلُ فيها على تباشيرِ سعيِه ويحلّق بِجناحيه إلى كندا، عبقريّته التي كشفت عن خطأٍ في سؤال في مادة الفيزياء خلال امتحان البكالوريا الذي لم ينتبه إليها أحد سِواه، والتي أدَّت به إلى تكريمه من طرف الرئيس الجزائري "هواري بومدين" ومن تَمَّ مواصلة دراسته في جامعة مونتريــال بِكندا أين تخرّج بشهادة هندسة البرمجيات، ثم انطلق في عملية تعريب الحواسيب عبر محاولة كتابة رسائل تهنئة بواسطة الحاسوب باللّغة العربية، والذي كان تحديًا كبيرًا له بسبب تنوّع وثخانة اللغة العربية حروفيًا ومعنويًا، إلى اختراع مشاريع كثيرة في ميدان برمجيات الاتصال والاسعافات الأوّلية وغيرها.
بعد انتهاء حفل الوسام والتكريم، بعد أن تنطفئ تلك الأضواء ويدعونا الجمع لِلمغادرة بعد ختام الأمسية والفعالية، يتكرّر دائًما في لساني شِعار هذه المؤسسة الفاضلة وأخرج ككلّ طبعة سابقة حضرتها، نديَّة العين، تخِمَة من غذاء العقل الذي قُدِّم لي صوتًا وصورة وأجواءاً، في راية قلبي علم الجزائر المحميَّة باللهِ الذي أزداد به افتخارًا بِموازاتي أمام هكذا قامات ونماذِج، وأعود أدراجي وأنا أردد الشعار مَلِيًا: "نعم، لِلجزائر علماؤها !".
حسكر سارة.
27/12/2023.
الجزائر المحميّة باللهِ.
Podcast الوسام
محتوى سمعي من انتاج مؤسسة وسام العالم الجزائري, تابعنا على:
google-podcast spotify apple-podcast