قالوا عن الوسام....

الشّذرةُ الابتدائيّة
من منّا لم تزُرهُ مرّةً وساوسُ اليأسِ الوضيعة، من منّا لم تُحَوّطْه مرّةً مخالبُ الفشل الفظيعة، ومن منّا لم تُخالجه مرّةً همْهَماتُ الانسحابِ الثّقيلة، كلّنا بين الفينَة والأخرى تكادُ تتمكّنُ منّا أمّاراتُ الوهنِ لكنّها لا تَفعلُ بل تَرْتَدّ خاسئةً من حيثُ انبرَت، ودنيئةً من حيثُ تَجَلّت، والوسامُ؛ "وسامُ العالِم الجزائريّ" ربْتَةُ حُبّ على ظهور المجاهدين، قُبلَةُ عطفٍ على جباهِ المُقاتلين، وحِضْنُ احتواءٍ غامرٍ للعاملين المُجدّين، يأتي كلّ عامٍ ليرسُم على الثّغورِ ابتسامة مُشرقة، وعلى القلوب جنّةً وارفةَ الضّلال، وليجدّد كلّ منّا عهده على ذاتِ الطريق غيرَ آبهٍ للأحمالِ الّتي لا تكفّ عن الظهور والعرقلة، حاملاً في روحه قبساً شديدُ السّطوع آيَتُهُ أنْ: "نَعم؛ للجزائر علماؤها"، إذ أنّ واجبُ التاريخ والجغرافيا والحضارة والعلم والمجتمع هو أن يكون له ضمن كلّ ذلك الزّخمِ إضافةً خاصّةً وإيقاعاً مُنْتَظَماً وإسهاماً مُباركاً.
الوسامُ في حُلّتِه الثانية عشر
بعد انقطاعٍ لمُدّة عامين بسبب أزمة الكوفيد تِسعةَ عشر، والتي شلّت مُعظمَ الأنشطةِ والفعاليّات عادت مؤسّسةُ وسام العالم مجدّداً لتُرسي سفينتها على أرض العلم والعلماء، كما كانت كلّ مرّة تفعلُ طيلةَ عقدٍ كامل وأزيدَ بقليل، ترحلُ إلى كلّ أرجاء الوطن شمالاً وشرقاً، غرباً وجنوباً سابرةً أغوارَ الجامعات، المؤسسات والمخابر وفِرَقِ البحثِ مُنَقّبةً عن مُستَحِقّ الوسام، عن عالِمٍ أفنى عمرَهُ باحثاً في دروب العلم والمعرفة، خدمَ الوطن وقدّم إنجازاتٍ حقيقيّة ليكون جديراً بأن يُقلّد هذا التشريف، وقد حَطّت فراشةُ الوسام لهذه الطّبعةِ عند العالِم الجليل، البروفيسور "ناصر الدين سعيدوني" والذي تألّق نجمُه في حقولِ التاريخ والتحقيق فتوغّل فيها دارساً، مُدرّساً، مشرفاً مُؤلّفاً وناقداً ليُلقّبَ بـ "رائد الدراسات العُثمانيّة" تارةً وبـ "العابد في محراب تاريخ الجزائر" تارةً أخرى.
ولم يكتفي الوسام بتلكمُ القامة فحسب، وبحثَ عن نقطة التقاء وتجميع نقطة انتقال بين جيل سابق وآخر لاحق ولربما هي نقطة انعطاف زاخرة، فضمّ للوالدِ الفاضلِ ولدهُ الكريمُ الدكتور "مُعاوية سعيدوني" الخبيرُ في علوم الفنّ والعمارة أوّلاً وعلوم التاريخ والمجتمع ثانيةً، مُصَوّراً بذلك تناغُماً مُتَفَرّداً وجِسْراً واصلاً بين العلومِ التِقَنِيّة والعلوم الإنسانيّة، وكاسراً بذلك الذهنيّة النمطيّة السائدة والتي فحواها بأن لا وصال بين المعارف ومن الصعب لدارسٍ واحد أن يفقه كلّ تلك التشعّبات ناهيك على أن يتميّز في مَحافلَ مَحَليّة وعالميّة، إذن؛ فعلها "مُعاوية سعيدوني" بإصراره وتفانيه، وفي فسيفساء بديعة مزج بين التاريخ والعمران وكُلّه طُموحاً في نُصرةِ الوطن والإعلاءِ من رايتِه، ليقول عنه والدُه ذاتَ مرّةً:" مُعاوية سعيدوني، جمع بين الاختصاص العلميّ في علوم العمارة والعمران والتعمّق في دراسة قضايا التراث ومسائل التاريخ".
الأسرةُ؛ الوجهُ الخفيّ للجبل
يولد المرء صغيرا لا يفقه شيئا من حوله، فيكبرُ رويداً رويداً بين أفراد أسرته، يتعلّم ويأخذ منها فهي سنده الأول ودافعه ومحرّكه، منها ينطلقُ وإليها يعود، ومنها يستقي مبادئه وقيمه وتتشكل خارطته الأولى ونظرته الابتدائيّة للحياة، لتكون بذلك الجانب الخفيّ لقصص النجاح الباهرة في الكبر، وكما هو شائع في الأدبيّات الفرنسيّة «La Face Caché De L’iceberg» وهكذا كانت أسرة "سعيدوني" نموذجا للعائلة المتكاثفة والمجاهدة والساعية إلى التميّز والرقيّ.
وقد صرّح الدكتور" معاوية سعيدوني" في إحدى جلساته حين تدوين سيرته العطرة أنّه: "من المواقف التي يتذكرها مع والديه؛ تكليفه وإخوته باستنساخ الدروس والنصوص، وبقراءة الكتب في أوقات الفراغ؛ وكان لذلك أثر كبير في تكوينهم لغويّاً وفكريّاً".
وأضاف أيضا في موطن آخر: "ما ألاحظه مع مسافة الزمن أنّ المواهب التي تشكلت لديّ في فترة الدراسة الأولى من الابتدائي إلى الثانوي قد رصّعت لديّ ثقافة واسعةً نوعاً ما، خاصة أنّني استفدت من المكتبة التاريخيّة والجغرافيّة للوالد".
ثمّ إنّ هذه الأسرة الطيّبة لم تكتفي فقط بمرافقة أبنائها ليبرع كلّا منهم في تخصص بعينه، في العمران، الطب والهندسة، بل أسّس البروفيسور الوالد مع الدكتور الابن "مؤسسة سعيدوني للدراسات التاريخيّة والعمرانيّة" في "مونتريال" بـ "كندا" وفي البلد الأم "الجزائر" وتُشرف على العديد من المشاريع الثقافية والعلميّة في التاريخ والحضارة والعمارة وما تعلّق بهما.
ولا عجب من هذا التلاحم القويّ والبناء المُشترك، إذا وجدناه هدفاً قارّاً وقيمة متوخّاة وأصلا متجذّراً جعل "مُعاوية" الابن يقول في أبيه "ناصر الدين": "قدوتي الحسنة الأولى هي أبي الدكتور "ناصر الدين سعيدوني"، عندما كان يحضّر شهادة الدكتوراه في التاريخ باجتهاد وعزيمة، عندها كنت في المرحلة الثانويّة"، وبالإضافة لذلك فقد كانت الوالدة "جمانة بوشلاغم" أيضا أستاذة في مجال الأدب العربيّ، فلم تكن التربيّة مجردُ أقوال ووصاياتٍ مُفرغة مُفارقة، بل كانت جوّاً مُعاشاً وديْدَنَاً مُحايثاً لكلّ فرد وسط المجموع العائليّ.
وفي لحظة التتويج البهيّة بهاء سرمديّاً اجتمع الزوج بزوجته، ليَحمل الوالدُ الفذّ وسامه، وتتشرّف الوالدة الرؤوم بوسامِ ابنها الحاضر روحاً وقلباً وجسداً من كندا، أيّ جمعٍ وأيّ عائلةٍ وأيّ حبّ وأيّ مسارٍ، إذ أنّ مثل هذا الجمال المُتفرّد لُطفٌ ربّانيّ لا يُضاهيه في المكانةِ ولا المرتبةِ لُطفٌ ثانٍ.
لوحتين؛ وإضاءات لا تنتهي
لوحة للعالم "ناصر الدين سعيدوني" وأخرى للدكتور "معاوية"، انسكبت فيها العبارات والعبرات، وترسّمت في ثناياها عصارة الحياة، ومشوار العطاء، جاءت كلمتا العالِمين المُكرّمين مفعمتين بالمعاني، اتّسمَتا بسلاسةِ العبارة وغزارةِ المعنى ودقّة المقصِد، وإنّ الواحد لا يَكاد أن يستجمع بتلابيب فكرة حتى تفلت من خاطره أخرى، ولا بأس أن أتجرّأ بعد أن لَمْلَمْتُ بعضها لبثّها ثانية كتذكرة يستأنس بها كلّ من ابتغى طريقا طالبا فيه العلم بصدق وثبات.
مداخلة البروفيسور "ناصر الدين سعيدوني":
تمحور حديثه حول جوانب رئيسيّة ثلاث، فأوّلا: نظرته وفلسفته في الحياة، ثانيا: إشكالية التميّز العلميّ ومتطلّباته وثالثاً وأخيراً المسألة الثقافيّة في الجزائر، وخلاصة أفكاره:
إن الميلاد الحقيقيّ للإنسان يتجلّى في مدى عطائه وقدرته على التأثير في المجتمع وتقديم الإفادة ومساعدة الآخرين بما ينفعهم، حيث يقول "ناصر الدين": "الحياة وعي بالذات واكتساب للتجربة وعطاء للآخرين، إكسيرها الطموح والاندفاع والفاعلية، ومفسدتها الغرور والنرجسية وتضخيم الذات والاستخفاف بالآخرين"، ويضيف: "خير سلاح في الحياة احترام النفس وصون الكرامة والمحافظة على المصداقية والإخلاص في العمل وتحاشي النفاق والتزلف وهنا تكمن قيمة الإنسان".
"الحياة رحلة لا يمكن تحديد مسالكها وتوقع مآلها وضبط أحداثها، وإنّ تجربة مسار الحياة ترفض الرجوع إلى الماضي لأنه لا يتكرر وتحول دون توقع المستقبل لأنه في حكم الله، وكل مرحلة من حياتي لها خصوصيتها ومتطلباتها وبالتالي فكل فرد يعيش حياته كتجربة خاصة به لا تتكرر لدى غيره، وكل ما كنت أتمناه منها أن أكون خير خلف لخير سلف".
أهميّة تجريب السفر والاغتراب فمن شأن ذلك توسيع الآفاق والاطلاع على تجارب الغير، وهذا مما لا شكّ فيه أنه يثري الرصيد وعامل مهمّ للتميّز، وهو بصدد إنتاج مؤلّف يحوي قصّة رحلاته نحو خمس وأربعين دولة.
كانت والدة البروفيسور "ناصر الدين" تَقُصّ على ولدها حكايات ما قبل النوم، وكان لها تأثير ملحوظ في إثراء مداركه، ولقد كان مثل هذا التقليد نافذته الأولى نحو تخصص التاريخ.
عندما كان البروفيسور "سعيدوني" رئيسا لقسم التاريخ بجامعة آل البيت رفقة كل من الدكتورين "أبو القاسم سعد الله" و"عمار بوحوش" ورغم المشاغل الإدارية والأكاديمية فإنهم كانوا يجتمعون كل يوم أربعاء للتبادل والتشاور حول القضايا الفكرية والتاريخية، وهذا يقدم ملحظا مفيداً وهو أهميّة التشارك تفادياً للعزلة الفكريّة والاغتراب الروحيّ وتصويبا للأفكار وتلاقُحاً للرؤى.
عرّج أيضا إلى إشكاليّة كثرة المتحصلين على الشهادات وقلّة حاملي الأفكار وصاحبي الإبداع الحقيقيّ والتغيير الفاعل.
وقال في خضمّ حديثة الثريّ: "أنا أسعد مؤرخ لأن السنوات التي قضيتها هي ثمانين سنة جعلتني أعيش خمسة قرون، فشهدت العهد الاستعماري بظلماته، الثورة الجزائرية بعنفوانها، مرحلة سنوات الاستقلال الأولى بحلمها الاشتراكيّ، الثمانينات بتقليعتها الليبرالية، التسعينات بمآسيها الإنسانية، وأعيش الآن بطموح ملفوف بغشاء من الحزن وخوف من المستقبل".
دعا بصفة ملحّة إلى إنشاء أكاديميّة خاصة بالعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة وإيلاء نفس الاعتبار الذي يُولّى للعلوم التقنيّة والتكنولوجيّة، كما بيّن ضرورة أن يسعى الطالب إلى تحقيق التميز العلميّ في مساره الأكاديميّ بالبحث المستمر والمثابرة الحقّة لاكتساب الخبرة اللازمة، والانتقال من مُجرّد جمع المعارف وتلقّيها إلى تفعيلها والانطلاق إلى فضاءات أرحب من الإنتاج والإبداع.
ربَطَ مصير المسألة الثقافيّة بمستوى القدرات المعرفيّة في حقول العلوم الإنسانيّة ومدى وسع النظرة لصيرورة التاريخ وحركيّته وتكامله.
مداخلة الدكتور "مُعاوية سعيدوني":
اتّسمت علاقة "مُعاوية" بوالده بالصداقة والمحبّة والتشارك المستمرّ ممّا عزّزها وجعل آفاقها منفتحة خلّاقة.
وجوب التفرغ للإنتاج المعرفيّ، وقد كان الدكتور "معاوية" يخصص على الأقل ساعتين ونصف في اليوم للكتابة والتحرير والترجمة والتدقيق.
إبّان العهد الاستعماري، أخذ التصميم المعماري طابعاً فرنسيّاً قائما على فكرة إلغاء الوجود الجزائريّ برمّته.
قام الدكتور "معاوية" بتأليف مخطوط بعنوان "في رفقة أبي" حول أسفاره مع والده.
الحرص على الابتعاد ممن لهم نظرة سوداوية للحياة، أو نرجسية مفرطة وأماني مبتذلة.
فاعليّة التخصصات التقنيّة تتجلّى حين ربطها بمسالك العلوم الأخرى وبالإشكاليات الرئيسيّة للوجود الإنسانيّ.
وفي شذرةِ الختام
جديرٌ بالذكر أنّ الحفلَ قد شهدَ حضوراً بهيجاً من كلّ ربوعِ الوطن فاق الألفينِ بقليل، كلّه همّةٌ وطموح للنّهل من مَعين العالِميْن، والارتشاف من كؤوس خبرتهِما المُمتَدّة وتجديد النيّة وعزم العقدِ على بذل أقصى الجهود لتقديم الأفضلِ والأجودِ لهذا البلد الذي يستحق أجلّ وأشرف وأقدسَ حياة ونفَس.
امتدّ العرس العلميّ لثلاثِ ساعات متواصلة وفي نبضٍ لا يخْبو توالت فقراته المُتوهّجة الممتلِئةِ أملاً، دفعاً، سناءً وبهاءً، كلماتٌ لا تكُفّ عن الحفر عميقاً والغوصِ بالأنفُسِ بعيدا، ليَتساءل كلّ واحدٍ منَا بصدق ما الذي قدّمتُه في خِضمّ كلّ هذا؟ ما
هو موقعي؟ كيف هو تسارُعي؟ وما مدى تناغُمِ حركيّتي وواقعُ المُجتمع واحتياجاته ؟ وغيرها من الأسئلة الكثير.
شكراً للقائمين على هذه المؤسسة الخيّرة التي ترنو دوماً إلى ما بين النجوم، شكراً لمنحي فرصة العمل ضمن فريقها المُثابر ولأن تكون لي بصمةٌ صغيرة ولوناً تسكبه ريشتي على اللّوحة الضخمة، شكرا للمركز الدولي للمؤتمرات الحاضن للحدث الفخم بمعماره الملفت الشامخ، وشكراً لكلّ المُساهمين في إعلاء راية العلم ومُباركة أهله وجعلهمُ النموذج الذي به يُحتفى، وبأثره يُقتدى، وعلى خطاه المسيرُ والطّريق.
كلماتُ الشّكر لا تكفي ولا تفي، لكنّ حسبي أنّ القلوبَ قد تحرّكت، والعقولَ قد فُتّحَت، والهِمَمُ قد شُحِذت، والأيادي قد تحركت لغدٍ أشدّ هيبةً وحضوراً في التاريخ.
 
 
أ.فلة داود