فالانتماء أمر لازم على كلِّ إنسان، والوفاء للعشيرة والعشير خُلق حسنٌ وحُكم مشروع... إلاَّ أنَّ أعظم انتماء هو للإسلام، يقول الحقُّ تبارك وتعالى: "وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ، هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ...".
ومِن عجب أنَّ بعض الناس اختلط عليه الأمر، فراح يردِّد خطابات "شموليةً-إقصائيةً-راديكالية"، تنفي كلَّ انتماء إلى الوطن، أو العرق، أو القبيلة... باسم الانتماء الأكبر، أو لصالح انتماءات جزئية أخرى؛ فكأنهم في ذلك أكثرُ فهما لروح الدين من سيد الخلق محمَّد، الذي انتسَب ونُسب إلى بني هاشم، بلا عُقدة ولا تعقيد، وقد رُوي عنه قوله عليه السلام: "أنا من بني هاشم ولا فخر". كما نسبه ربـُّه إلى اللسان العربيِّ المبين، وليس في هذا ما يُشينه ولا ما يُشين عالمية الدين الحنيف: "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ".
علامة انتمائنا ورمز هويتنا:
حملتُ ذات يوم قطعةَ قماش زاهيةَ الألوان إلى صبَّاغ، وطلبتُ منه رسم علَم مميَّز، يكون علامة لانتمائنا، ورمزا لهويتنا، فما كان منه إلا أن أعدَّ لي نماذج كثيرةً، وأعلامًا عديدة، بعضُها أميل إلى الحمرة، والبعض الآخر أخضر قانٍ، وثالث كلُّه نجوم على بياض، ورابع أبيض فارغ "فراغ فؤاد أمِّ موسى"… وخامسٌ... وسادسٌ... وسابع...
فقلت له: ألا ترى أنَّ ذاتيتنا متوازنة، وأنَّ وجودنا "ذاتيٌّ"، وأنَّ التناسق والتناغم والجمال سمة من سمات انتمائنا وهويتنا؟ فهلاَّ أبدعت لي علَما يعبِّر عن هذه الصفات والسمات؟
فما كان منه إلاَّ أن اعتذر، وعبَّر عن عجزه وقصور إدراكه…
ثم نصحني ناصحٌ أن أحمل قطعة القماش إلى مدرسة ابتدائية، وأعيدَ الطلب على تلاميذها وبراعمها، وأنتظرَ الجواب…
استجبتُ للنصح وفعلت...وبعد مدَّة ليست بالطويلة، خطَّت البراءةُ "علَما نصُفه أخضرُ والنصف الآخر أبيض، يتوسَّطه هلال ونجمة حمراوين"… فلـمَّا تأمَّلته وسألت عن فحواه، أجابني الأطفال الأبرياء، بنين وبنات... بصوت واحد:
*أمَّا الخضرة فدليل على الطبيعة والكون، وآيةٌ من آيات صنع الخالق عزَّ وجل، وفيها سبق حضاري في مراعاة البيئة والحفاظ عليها…
*وأمَّا البياض فالطهر والصفاء في الخلُق، ودليلُ الإسلام وعنوانُه، ألم يقل رسولنا الكريم: "اِلبسوا البياض"، فهل يحقُّ لنا أن نلبَسه نحن – أنانيةً – ونحرم منه وطننا الجميل – جفاء –.
*وأمَّا الهلال فهو رمز الحضارة الإسلامية العريقة، الضاربةِ جذورُها في تاريخ الكون المفتوح، والمعلنةِ عن شعائر الصوم، والحجِّ، والبحث العلميِّ، والحساب… وغيرها. ألم يقل ربنا سبحانه: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً، وَالْقَمَرَ نُورًا، وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ، لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ، مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ".
*أمَّا النجم فعنوان أركان الإسلام الخمسة، كلُّ حافَّة رمزٌ إلى شعيرة من الشعائر، وهو مع ذلك دليل على الكثرة والتعدد والاختلاف وسعة الكون للكلِّ، بلا إقصاء ولا ادعاء…
*وأمَّا حمرة الهلال والنجم، فهي حمرة موزونة متَّزنة، وهي شعارٌ للشهادة والشهداء، الذين أبلوا البلاء الحسن في تحرير وطننا المفدَّى؛ وهي اليوم دعوةٌ لبذل الجهد واستفراغ الطاقة، لبناء أركان حضارتنا بعقولنا وسواعدنا ومُهجنا.... فهل نحن فاعلون؟!". (انتهى بيان الأطفال).
يومها، وبعد هذا البيان من هؤلاء الأطفال الصغار... تيقَّنت أنَّ الجزائر بريئة طاهرة لا يقدرُها إلاَّ الأبرياء الأطهار، وأنَّها حُبلى تعِد بمستقبل زاهر حقيق؛ وأنَّ ما ألمَّ بها من فتنٍ، وما دهاها من خطوب، ما هو إلاَّ عارض قريب، سيزول غدا أو بعد غد بإذن السميع المجيب…
مِن "العالِم المخلِّص" إلى "الجماعة العلمية":
كان الناس في القديم يبحثون عن "عالِم واحد" هو الذي يخلِّصهم من التخلُّف، ويحرِّرهم من العبودية، ويرفع عنهم الجهل… أمَّا اليوم فقد ولَّى زمن "الشخص الواحد"، و"الفكر الواحد"، و"الحلِّ الواحد"… وحلَّ محلَّه مفهوم "التعاون"، و"التآزر"، "والتبادل"، و"العمل الجماعي"، و "الكلِّ النافع في مكانه وزمانه"… تحت نموذج دقيقٍ، أبدع في صوغه نبيُّنا المصطفى عليه السلام، إنه "نموذج السفينة"، نموذجٌ فحواه ومؤدَّاه: "… فإن تركوه هلك وهلكوا، وإن أخذوا بيده نجا ونجوا".
ولذا، فالواجب اليوم سادتي، يدفعنا متآزرين متكاتفين، إلى تأسيس تلكم "الجماعة العلمية"، بكلِّ ما يعنيه المصطلح من مفهوم عميق في "نظرية المعرفة"، إذ "لا يكفي أن ندَّعي أنـَّنا علماءَ حتى يتمَّ الاعتراف بنا بصفتنا علماء"...
"أن تكون عالما يعني أن تنتمي إلى كلٍّ اجتماعيٍّ، مشكَّل من مجموع الفاعِلين، الفرديين أو الجماعيين، في الاستقصاء العلميِّ".
وإذا أردنا أن نحدِّد شروط الانتماء إلى "الجماعة العلمية" (La communauté scientifique)، فيكفي أن نذكِّر بالمصطلحات الآتية: المؤسَّسة (Institution)، الدور (Rôle)، المران (Apprentissage)، المعايير (Normes)، والمراقبة الاجتماعية (Contrôle social). فهذه بضعةٌ من المفاهيم المفتاحية يمكن تجنيدها وتنسيقها لشرح طبيعة "الجماعة العلمية"، وبيان معالمها وحدودها.
ثم إنَّ سؤالي العميق، في هذا السياق، لكلِّ عالم أو مشتغل بالعلم في قاعتنا هذه، هو:
• هل تحسُّ أنـَّك كافٍ بمفردك لحلِّ "الأزمات المعرفية" التي تعترض مجال تخصُّصك؟
• هل تجد نفسك منتم إلى "جماعة علمية"، في مجال تخصُّصك؟
• هل الإنجاز العلميُّ-المعرفيُّ- وليدُ عمل فرديٍّ؟
• أم هو ثمرة جهود جماعية، مؤطَّرة ضمن "جماعة علمية"، محكَمة العلاقات، متينة الروابط؟
• هل إشكالات الواقع اليوم، تنتظر حلولا من خارج دائرة العلم؟
• إذا كان العلم ضرورة للخروج من حال الأزمة، هل أداؤنا اليوم مكتملٌ، بصيغة "الجماعة العلمية" المسؤولة الواعية؟
لكلٍّ جوابُه ورأيُه في الأسئلة والإشكالات المطروحة بحدَّة، غير أننا آثرنا من خلال "معهد المناهج"، ومن خلال هذا الحدث التاريخيِّ، أن نساهم ببعض الحلِّ، ونشارك ببذرة قد تسخُو بثمارها ولو بعد حين... آثرنا أن يكون الجواب بعدَّة أشكال، من بينها: وسام العالم الجزائري.
وسام العالم الجزائري:
*هل "الجوائز العلمية" نتيجةٌ أم هي سبب؟ وبعبارة أخرى:
*هل تسلَّم "الجوائز العلمية" عندما يتقدَّم العلم، ويتصف بالنضج وبالرسمية العالية؟
*أم أنَّ "الجوائز العلمية" سبب لتطوُّر العلوم، ووسيلةٌ من وسائل النهوض بالعلم في أمَّة ما؟
الحقُّ أنَّ "الجوائز العلمية" سببٌ ونتيجةٌ في آن واحد، وهي مؤشِّر دقيق لتطوُّر العلم في مجتمع معيَّن، إذ كلَّما تنوَّعت هذه الجوائز، وكلَّما تحوَّلت إلى أحداث ذاتِ قيمة، وكلَّما نالت مرتبة مقبولة في السلَّم الاجتماعي... كان ذلك دليلا على أنَّ العلم في ذلك المحيط بخير، وأنه في أعلى المراتب... وأنَّ ثمة "جماعاتٍ علميةً" تعمل وتجتهد...
- تحصي مجلة زوكرمان حوالي 3000 جائزة علمية في أمريكا الشمالية وحدها... فكم هو إحصاء "الجوائز العلمية" المعتبرة في بلادنا العربية؟ وفي الجزائر بالذات؟
الحقُّ أنَّ العدد، والقيمة المالية، ليسا هما المؤشِّر الوحيد لنجاح "الجائزة العلمية" في تحقيق غرضها؛ فمثلا أغلى جائزةٍ علمية عالمية هي "جائزة اليابان للعلوم". إلاَّ أنَّ جائزة "نوبل"، تُعتبر المكافأة الأكثر نجوميةً، وبكلمات أحد المعلِّقين: "إنَّ جائزة نوبل هي المكافأة التي تعطيك الفرصة، لكي تصبح أشهر إنسانٍ على وجه الأرض".
غير أنَّ جميع هذه الجوائز لها خلفياتها الأيديولوجية، وقناعاتها الكونية، أي أنَّ كلَّ جائزة لها "عقيدتها"، و"غايتها"، و"أهدافها"، أو ما يعرف "بالنموذج"، و"المنظور"، و"البراديم"...
ولسائل أن يسأل: لماذا منحت جائزة نوبل للسلام في هذا العام 2010، للمنشق الصيني السجين "ليو شياباو"؟
- أمَّا "وسام العالم الجزائري"، فهو مدخلٌ ومقدِّمة لجائزة علمية جزائرية، ومحاولة تحمل قناعات أساسيةً، لها غاياتٌ وأهداف بيِّنة واضحة، تنطلق من توازن "علَم الجزائر" بكلِّ أبعاده، وتصبُّ في خير الجزائر ورقيِّها بكل المقاييس؛ ولذا كان اسمها: "وسام العالم الجزائري"، بلا إضافة، ولا تقييد، ولا تخصيص، ولا تعيين...
فوسام العالم الجزائري يسلَّم لعالم جزائري، خدم وطنه، فترك آثارا علميةً أو بحثية أو تربوية أو فكرية طيبة، نفع الله تعالى بها البلاد والعباد. ويسلَّم كذلك لباحث جزائري، برز باختراعات في أيِّ مجال من مجالات المعرفة والعلم، فكان شرفا لوطنه، ومنارة عالمية أعلت من شأن جزائرنا الغالية، في المحافل العالمية والدولية".
يشارك في اختيار العلَم، وفي تكريمه، جهات كثيرة، منها:
- السادةُ العلماء، العامِلون ضمن "معهد المناهج"، وفي "الجامعات الجزائرية" عموما.
- الطلبة والباحثون، المنتمون للمعهد، والمسجَّلون غالبا في الجامعات الوطنية والدولية.
- الهيئات العلمية والتربوية (مدارس، جامعات، معاهد...).
- الهيئات السياسية والإدارية في الجزائر (وزارات، إدارات...).
- الهيئات الإعلامية والثقافية (دور النشر، قنوات، جرائد...).
- الشركات والمؤسَّسات التجارية الداعمة.
- الشركاء من مختلف الدول الأجنبية الصديقة (سفراء، وزوار كرام، وعلماء مشجِّعون...).
ولقد تمَّ الاستفتاء عبر موقع فييكوس، وبين ثنايا صفوف الجامعات، وباستشارة العديد من الشخصيات العلمية والاجتماعية... فالحمد لله وحده، له المنَّة وله الثناء الحسن.
لماذا الدكتور سعيد بويزي؟
بكلِّ المواصفات التي ذُكرت، وبمشاركة الجهات التي عدِّدت، وقع الاختيار على "الدكتور سعيد بويزري"، للحصول على "وسام العالم الجزائري" في "طبعته الرابعة"، مذكِّرين أنَّ الطبعات السابقة كانت من نصيب كلٍّ من الأساتذة والدكاترة: أبو القاسم سعد الله، ومحمد صالح ناصر، وجمال ميموني، وعبد الرزاق قسوم، ومحمد الهادي الحسني...
فالدكتور سعيد بويزري جمع إلى العلم العملَ الاجتماعيَّ الدعويَّ المتفاني: هو أستاذ في الجامعة، وصاحب مشروع "والصلح خير"، وواعظ في مختلف المنابر، وله حصص إذاعية وتلفزيونية باللغتين العربية والأمازيغية، ومواجه لكلِّ أشكال التنصير والتضليل بحكمة وروية، ومفسِّر لكلام الله تعالى، ومؤلِّف للعديد من البحوث المتخصِّصة في القانون والشريعة الإسلامية، وصاحب مشروع إعلاميٍّ رقميٍّ رائد.
وهو مع ذلك يقف إلى صفِّ الاعتدال والتسامح، ويعتزُّ بانتمائه بلا تعصُّب ولا حمية، وينافح عن وحدة هذا الوطن، ويحترم كلَّ أطيافه ومشاربه، بخلُق سمح، وحِلم عريض، وتواضع جم.
- بورك لك أستاذنا، وبورك فيك، وإننا لنهدي هذا الوسام – رمزيا، باسمك – إلى العالم الربانيِّ، الشهيدِ المجاهد، الدكتور حمود حنبلي، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جنانه، إنه سميع قريب مجيب... آمين... آمين.
- كلُّ رجائنا، سادتي الكرام، أن يتحوَّل "وسام العالم الجزائري" إلى حدث وطنيٍّ – بل دوليٍّ –، وأن تتبناه جهات عُليا، ومؤسَّسات كبرى، وأن ينال حقَّه ومستحقَّه من التعريف العلميِّ، والإشادة الإعلامية، والقيمة المعنوية والمادية... الأمرَ الذي لا ندَّعي أننا بلغناه، من خلال هذه المبادرة القليلة، الأولية، المبدئية.. فقصارانا أننا نرجو من الله تعالى أجر المبتدي، وندعوه أن يبعث للمشروع من على خُطاه نهتدي...
ولسان الحال ينادي بأعلى صوت، سادتي: من للجزائر غيرُكمُ؟
فأنتم، أيها المحفل الكريم... بحضوركم، ودعمكم، وتشجيعكم... أهلٌ لكلِّ المكارم، فطوبى لكم ثم طوبى، أن رفعتم ما أمر الله أن يُرفع، وخفضتم ما أذن الله أن يُخفض. فسبحان من قال فأوجز، وعلَّم فأعجز: "يرفعِ الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات".
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
Podcast الوسام
محتوى سمعي من انتاج مؤسسة وسام العالم الجزائري, تابعنا على:
google-podcast spotify apple-podcast